قامت الدنيا ولم تقعد، بعد أن تداولت مواقع التواصل الاجتماعى فيديو مدير دار مكة لرعاية الأيتام بالهرم، والمتهم بالتعدى بالضرب المبرح على الأطفال نزلاء الدار وتعذيبهم، فلم تأخذه بهم شفقة ولا رحمة.. وتجرد من كل المشاعر الإنسانية.. كان يضربهم لو حاولوا مشاهدة التليفزيون أو فتح باب الثلاجة، أو السهر، أو اللعب، وكان يعاقبهم ولم يعاملهم كأيتام.. بل تصرف معهم كالوحوش الكاسرة!! وإذا كانت المصادفة وحدها قد كشفت سلخانة التعذيب فى دار مكة لرعاية الأيتام بالهرم، فإن ما خفى كان أعظم، .. فكم من جرائم تعذيب وتحرش وإذلال لحقت بأيتام فى دور أخري، ولم تصل إليها أيدى الرقابة فى الجهات المعنية، لكنها ظلت تمثل جرحا غائراً فى نفوس هؤلاء الأطفال اليتامى الذى كتموا همومهم فى صدورهم ، ولم يجدوا من يرحمهم أو يستمع إلى شكاواهم، أو يستجيب لتوسلاتهم؟ ويبقى السؤال: أين الخلل؟ فى الكثير من المؤسسات المعنية بإيداع الأيتام أو أطفال الشوارع يرتكب العديد من الجرائم، وكثير من هذه الجرائم لا أحد يسمع عنها إلا بالمصادفة، ولذلك- والكلام هنا للدكتورة فادية أبو شهبة أستاذ القانون الجنائى بالمركزالقومى للبحوث الاجتماعية والجنائية- لابد من تأهيل القائمين على هذه المؤسسات نفسياً وتربوياً، بحيث يكون المشرف شخصاً سوياً خالياً من العقد النفسية، واعيا بمتطلبات هذه المرحلة، واحتياجات هؤلاء الأطفال من الناحية النفسية، قادراً على التعاطى مع مشكلاتهم، مراعياً لظروفهم الاجتماعية، وأن يكون متعلماً ومدرباُ على طرق التنشئة السليمة، فالأهم من تحديث المبانى التى يقيم فيها هؤلاء الأطفال هو تحديث العنصر البشرى القائم على هذا العمل ، وتوفير البنية البشرية اللازمة للتعامل مع هذه الفئة فى هذه المرحلة العمرية الحساسة. الضرب والتعذيب وليس من المقبول، أن تكون الأسرة البديلة، أو الموظف المؤتمن على تربية هؤلاء الأيتام أو الأطفال وتنشئتهم سبباً فى إيذائهم، وإصابتهم بالأمراض البدنية والنفسية، ولذلك فإن الموظف المتهم فى واقعة تعذيب أطفال دار مكة لرعاية الأيتام يجب أن ينال العقاب الرادع عما ارتكبه من سلوك مخالف للقوانين والأعراف والقيم الإنسانية، ليكون عبرة لغيره ممن يرتكبون هذا السلوك الإجرامي، يضاف إلى ذلك ضرورة تكثيف الرقابة على دور الأيتام ومؤسسات التنشئة الاجتماعية المماثلة، وحتى المؤسسات العقابية، وقد سبق أن حذرنا من ذلك فى دراسات علمية عديدة، بهدف إيجاد بيئات آمنة وسليمة، تصنع طفلاً صالحا لنفسه ولوطنه فى المستقبل، لكن المشكلة التى نعانى منها باستمرار هى حالة الهدوء والنسيان التى تصاب بها المؤسسات المعنية بالطفولة فى الدولة والمجتمع المدني، حيث تحصل كل حادثة اعتداء على الزخم والاهتمام الرسمى والإعلامي، وما إن تهدأ الأمور حتى تذهب الواقعة إلى طى النسيان، حتى تحدث واقعة جديدة وقتها يتم طرح المشاكل والحلول، والتى تذهب أدراج الرياح بعد فترة من الزمن، ولذلك لابد من البحث عن حلول واقعية وعملية للمشكلات التى تواجه هذه المؤسسات حتى لا يفاجأ المجتمع بكارثة جديدة، لذلك لا مفر من تنوير العنصر البشرى وتأهيله للتعامل مع هؤلاء الأطفال، وتدريبهم على التنشئة النفسية والاجتماعية السليمة لهؤلاء الأطفال، وتكثيف الرقابة على هذه المؤسسات، وتطبيق القانون بكل حسم على المخالفين حتى يكونوا عبرة لغيرهم من العاملين فى المؤسسات الخاصة بالرعاية الاجتماعية. ما خفى كان أعظم الدكتورة عزة كريم أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية تؤكد أنه من المؤكد تعرض العديد من الأطفال فى مؤسسات ودور رعاية لمثل هذه المعاملة غير الانسانية، كما أن هناك جمعيات كثيرة تقوم بمعاملة غير إنسانية للأطفال، حيث يكون العنف والضرب هما الوسيلة التى يتبعها البعض فى هذه الدور والجمعيات والمؤسسات لعقاب الأطفال على ارتكاب خطأ ما، وهذا السلوك من جانب القائمين على مثل هذه الجمعيات يعكس حالة من الجهل وعدم المعرفة بأساليب التعامل مع هؤلاء الأطفال المحرومين من أسرهم ، والذين يبحثون عن الحنان والدفء الأسري، فلا يجدونه، كما أن الظروف حرمتهم من الحياة الطبيعية، ومن ثم فهم ليسوا أسوياء، ولذلك يحتاجون إلى معاملة نفسية وتربوية سليمة، ومن أسف أنه لا يوجد الشخص المدرب الواعى المتخصص فى التعامل مع هؤلاء الأطفال، ولذلك يقع الكثير من الكوارث بسبب الممارسات الخاطئة فى التنشئة الاجتماعية بهذه المؤسسات والجمعيات. الأكثر خطورة، هو مفهوم الثقافة التربوية السائدة لدى الأسرة المصرية، والتى تعتمد الضرب والعنف مع الأطفال كوسيلة للتربية والتوجيه، وعقاب الأطفال بالضرب عما يرتكبونه من أخطاء، وهذه الثقافة يجب أن تزول لأنها لا تسهم فى تعليم الطفل وتدريبه، بقدر ما تسهم فى إيذائه بدنياً ونفسياً. إعادة هيكلة وبشكل عام، فإن العديد من هذه المؤسسات والجمعيات كما تقول الدكتورة هبة العيسوى أستاذ الطب النفسى بكلية الطب بجامعة عين شمس- تضم أعدادا كبيرة من الأطفال فى نفس الفئة العمرية، كما أن الغرف ذاتها تحتوى على أعداد من الأطفال، وما إن يبدأ هؤلاء الأطفال فى التكيف والتعامل مع أم بديلة أو مشرف، والارتباط بها أو به أى المشرف أو الموظف وجدانيا ونفسياً، فإنهم قد يفقدون هذه الأم البديلة، أو المشرف بسبب النقل أو لأى ظروف إدارية ، يفقدون الشعور بالأمان، وفى مثل هذه الأعداد الكبيرة من الأطفال يمكن السيطرة عليهم بالحب والتفاهم والتوجيه والإرشاد النفسى المستمر، لكن المشكلة التى يقع فيها هؤلاء المشرفون هى محاولة السيطرة على هذه الأعداد الكبيرة من الأطفال المودعين فى هذه الدور أوالجمعيات عن طريق الضرب على طريقة المثل الشعبى المعروف: «اضرب المربوط يخاف السايب» أو عن طريق البحث عن كبش فداء يكون عبرة لغيره من أقرانه داخل الغرفة أو العنبر، حتى يرتدع الآخرون، ويعتبرالمشرفون الضرب وسيلة مهمة لفرض السيطرة، وهذه تمثل سيطرة غير تربوية، كما أن كبار السن لا يتحلون بالصبر اللازم للتعامل مع هؤلاء الأطفال، ومن ثم يجب استبعادهم من هذه المهمة لأنهم غير قادرين على القيام بها، ومن ثم يجب اختيار مشرفين من فئات عمرية متوسطة ،على أن يتم إكسابهم مهارات التعامل مع هؤلاء الأطفال بصفة مستمرة وفق الأساليب العلمية فى التنشئة والتربية الاجتماعية، فالذى لا يعرفه الكثيرون أن الحب واللعب مهمان، وضروريان للتنشئة السوية خلال السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل، فالحب يصنع شخصية سوية، واللعب يكسب الطفل العديد من المهارات كالانتباه والقدرة على التركيز و التفكير وحل المشكلات، ولذلك فإن ما ارتكبه مشرف دار الأيتام المتهم بالتعذيب سيؤدى بطبيعة الحال إلى صناعة مشروعات مجرمين بسبب تعرض هؤلاء الأطفال الأيتام للعنف والضرب والإيذاء النفسى والبدني، ومن ثم يجب ألا تمر هذه الواقعة دون عقاب للمتهم ، حتى يكون عبرة لغيره من القائمين على هذه الدور والجمعيات، فالقضية ليست طعاما وشرابا ومكانا مؤهلا للإقامة، فهذه المستلزمات متوافرة فى الجمعيات ودور الأيتام، ولكن القضية فى ضرورة توفير العنصر البشرى المدرب والقادر على التعامل مع هذه الفئة العمرية المحرومة من الحنان والحب والأسرة. الحل كما تراه الدكتورة هبة العيسوى أستاذ الطب النفسى هو ضرورة حصر كل المشكلات التى تواجه هؤلاء الأطفال، والتعامل معها بأسلوب علمى دقيق، وتعيين عناصر بشرية مؤهلة ومدربة للتعامل مع هؤلاء الأطفال. الرقابة مستمرة حملنا ملف أزمة الأيتام إلى السيدة عزيزة عمار رئيس الإدارة المركزية للرعاية الاجتماعية بوزارة التضامن الاجتماعى والتى أكدت ل«تحقيقات الأهرام» وجود نحو 440 مؤسسة تقبل الأشخاص من سن 6 سنوات وحتى 18 عاماً وحتى إذا وصلوا إلى هذه السن فإنهم يرفضون مغادرة المؤسسة، ويصرون على البقاء فيها، إلى جانب 82 دار حضانة تقبل الأطفال من سن عامين وحتى 6 سنوات، أما جمعيات رعاية الأيتام فيقدر عددها بنحو 46 ألف جمعية على مستوى الجمهورية، يتبع كل منها دار للأيتام، وتخضع هذه الجمعيات للرقابة فى مراحل متعددة بدءاً من الوحدات الاجتماعية بالأحياء، ثم رقابة من الإدارات الاجتماعية، فمديريات الشئون الاجتماعية، فالوزارة، فضلاً عن قيام المحافظات بمتابعة المشروعات التابعة لها، ثم مجالس المدن التابع لها الحضانات، كما أن وزارة الصحة تقوم بالمتابعة، مؤكدة أنه فى خضم هذا العدد الكبير من الجمعيات ودور الأيتام، تقع تجاوزات، ونحن نتصدى لها كما حدث مؤخراً فى إحدى دور الأيتام فى المقطم وقلعة الكبش، ودار السلام.