لم أتمالك دموعى وأنا أرى الشباب المصرى يبدأ حفر قناة السويس الجديدة. هذه المرة دون سخرة وبدون كرابيج ودون ودون أجنبية. حفر القناة كلفنا دماء وأرواحا، والحفاظ عليها كلفنا دماء وأرواحا. السيطرة الأجنبية على القناة، أهم شريان ملاحى للتجارة الدولية، خطر دائم كبدنا سنوات طويلة من الاحتلال الأجنبى والنهب الاستعمارى وعددا من الحروب المريرة. التربص بالقناة ظهر واضحا خلال فترة حكم الإخوان، مرة عبر مشروع الصكوك الإسلامية ومرة عبر قانون تنمية إقليم قناة السويس. الإيمان العميق بذلك الخطر هو الذى أدى إلى النص فى الدستور الجديد على التزام الدولة بحماية قناة السويس والحفاظ عليها. القناة الجديدة تمثل أول خطوة ضمن مشروع قومى ضخم مطروح منذ عقود لتنمية منطقة قناة السويس، والتحول من التعامل بمنطق “الكارتة” الذى يكتفى بتحصيل الرسوم وتقديم بعض الخدمات الملاحية للسفن والناقلات العابرة إلى الانطلاق لتحقيق تنمية صناعية وتجارية وزراعية وخدمية وعمرانية، تقوم على التوظيف الكفء لكل الإمكانات الطبيعية والقوى البشرية فى المنطقة المحيطة بهذا الموقع الجغرافى الفريد الذى يتوسط خريطة التجارة الدولية بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب. الخطوة الأولى جاءت عملاقة. صحيح أن مشروعات توسيع وتعميق المجرى الملاحى للقناة طوال تاريخها كانت تمثل دائما عملية مستمرة لمواكبة التطور فى حجم الناقلات الضخمة وحركة التجارة الدولية، إلا أن التطوير فى هذه المرة يمثل نقلة كيفية، حيث يتم حفر امتداد جديد للقناة وتعميق الغاطس فى بعض أجزائها بما يمكن من تحقيق ازدواجية المرور الملاحى وتخفيض فترة الانتظار للسفن العابرة. المتخصصون يقولون إن المشروع يؤدى إلى مضاعفة حركة الملاحة وبالتالى مضاعفة الإيرادات من رسوم العبور. التاريخ يقول إن مدنا مثل بورسعيد وبور توفيق والإسماعيلية ظهرت إلى الوجود بعد إنشاء قناة السويس، والمنطق يجعلنا نتوقع أن يتضمن مخطط المشروع مناطق عمرانية ومدنا جديدة، بما تعنيه من استثمارات ونشاط اقتصادى وفرص عمل. تدشين العمل فى القناة الجديدة اقترن بالإعلان عن حفر ستة أنفاق للربط بين سيناء ومدن القناة، ومد خطوط سكك حديدية فى بعض تلك الأنفاق، بما يمثل خطوة مهمة للبدء فى تنفيذ مشروعات تنمية سيناء ضمن المشروع الكبير لتنمية منطقة قناة السويس. خطوط السكك الحديدية تشكل أولوية كبيرة فى ظل التوجه الحالى لاستخدام الفحم فى الصناعة كأحد سبل مواجهة النقص الحاد فى الغاز والمنتجات البترولية. المتخصصون فى الثروة المعدنية يقولون إنه كان لدينا منجم فحم كبير فى سيناء يوفر فرص عمل ضخمة لأبنائها، ولأسباب غير مفهومة تم إغلاقه. الحاجة إلى الوقود وتوافر الربط بخطوط السكك الحديدية قد تعيد الحياة إلى منجم الفحم وإلى الصناعات التى تعانى من نقص الطاقة. الفترة الزمنية التى تم تحديدها للانتهاء من حفر القناة الجديدة هى عام واحد. تم التأكيد أن تتولى أعمال الحفر شركات مصرية تحت إشراف القوات المسلحة وأن يكون التمويل مصريا خالصا بعيدا عن الديون الأجنبية. التصريحات الأولية تشير إلى التوجه للاعتماد فى هذا الشأن على مدخرات المصريين فى الداخل والخارج، وطرح أسهم وسندات للاكتتاب العام تستهدف كل فئات الشعب. فكرة الاكتتاب العام لها بالطبع جانبها الرمزي، كتعزيز للشعور القومى بملكية المصريين للقناة واشتراك كل مواطن فى تلك الملكية. سبق اللجوء للاكتتاب العام عند تنفيذ برنامج السنوات الخمس للصناعة عقب العدوان الثلاثى عام 1956. إلا أن هناك فى تصورنا بعض القواعد الأساسية التى يتعين مراعاتها فى هذا الشأن. أول تلك القواعد هو وضع حد أقصى على ملكية الأسهم المطروحة، ليس فقط فى مرحلة الاكتتاب، ولكن حتى بعد التداول إذا تم طرحها فى سوق الأوراق المالية. فالمطلوب أن تظل القناة ملكية عامة للشعب المصرى كله، ولا تئول حيازة نسبة مؤثرة من أسهم ملكيتها إلى حفنة من الأفراد أو المؤسسات. لذا يفضل أن يتم الاعتماد بشكل أساسى على طرح سندات، وأن يكون حجم الاكتتاب فى الأسهم رمزيا، بحيث تظل هيئة قناة السويس هى الممثل لملكية الشعب. الأمر الثانى يتعلق بالبنوك المصرية والتى يتوقع أن تقوم بدور أساسى فى توفير التمويل المطلوب. فسواء تم ذلك التمويل من خلال أسهم أو سندات يجب الالتفات إلى حقيقة أن كل البنوك العاملة فى مصر - باستثناء فروع البنوك الأجنبية - مسجلة كشركات مساهمة مصرية، رغم أن نسبة الملكية الأجنبية فى رأسمال كثير من تلك البنوك يمكن أن تكون هى الغالبة. وبالتالى نريد تحديدا قاطعا لمفهوم “ البنوك المصرية” لكى يكون واضحا إلى من ستئول فى النهاية أسهم الملكية أو سندات المديونية. أيضا يتعين أن ينص النظام الأساسى للشركة أو الكيان القانونى الممثل للمشروع على حظر بيع أسهم ملكيتها لغير المصريين. هذا النص ضرورى إذا تم تداول الأسهم فى البورصة، وإلا كان من حق أى مستثمر من أى جنسية على وجه الأرض أن يشترى من تلك الأسهم. مصر من أوائل الدول الموقعة على الاتفاقية الدولية متعددة الأطراف لتحرير الخدمات المالية، وتلتزم فيما يتعلق بالبورصة بالمساواة التامة بين المستثمر المحلى والأجنبي. فلا يمكن حظر الاكتتاب فى أوراق مالية معينة على الأجانب إلا لو كان النظام الأساسى للشركة المصدرة ينص على ذلك. نريد القناة الجديدة خالصة لنا دون أى شائبة للقلق. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى