في أثناء الحرب على غزة كانت أشعار محمود درويش على صفحة الفيس بوك الخاصة بي وبأصدقائي هي الأكثر حضورا، ما جعلني أتساءل عن السبب، خاصة وأنه رحل منذ ست سنوات - هذه الأيام تصادف الذكرى السادسة لرحيله - وأنه ليس من مواليد المدينة التي يعد الشاعر معين بسيسو الذي دُفِنَ في القاهرة أبرز شعرائها. وكان درويش كتب عن علاقة رفيق دربه بمدينته كتابة تشير إلى أننا إذا أردنا أن نقرأ عن غزة في أعمال كاتب ما فما علينا إلا أن نقرأ أشعار بسيسو ومسرحياته "غزة مملكته الشخصية ومملكته الشعرية الخاصة، كما ستبدو غزة ناقصة" دون بسيسو. ومن قرأ أشعار معين ومسرحياته في نهاية الستينيات وبدايه السبعينيات من القرن العشرين، لا يفاجأ بالقسوة التي مارستها "إسرائيل" في حربها على غزة.. كتب معين مسرحيته "شمشون ودليله" التي مازالت صالحة لتفسير ما يجري، والتي ربما تقول لنا لا تتفاجأوا بجنون القسوة الإسرائيلية وهذا التدمير لأحياء الشجاعية وخزاعة ولرفح أيضا "قاتلنا الجرح الأول وعلينا ألا نجرح أبدا يا شمشون"، هذا ما تقوله راجيل التي تضيف بأن قدر الإسرائيليين غير أقدار الناس جميعا ، فقدرهم قدر الأجراس إن كفت تقرع ماتت وإن كف الإسرائيليون عن قتل الفلسطينيين المقاومين انتهوا، وإن جرحوا مرة ماتوا. ومعين ولد في الشجاعية ولم يجد له قبرا في مدينته التي كتب عنها في سيرته " دفاتر فلسطينية". هل خطر ببال نيتانياهو وطياريه ورجال مدفعيته وهم يدمرون حي الشجاعية أنهم يدمرون حي معين بسيسو؟! هل كان هؤلاء يتذكرون ما فعله الغزيون وابنتهم دليلة بشمشون وبالتالي ربطوا بين الماضي والحاضر؟ هل مازالت عقدة شمشون تكمن فيهم. في سيرته لا ينسى معين بسيسو ما حدث لشمشون بل يربط بين مقاومة الفلسطينيون في غزة ، ما بين 1967 و1971، وما فعله الفلسطن الأوائل بشمشون ، وقوله "وغزة التي لوت ذات يوم قرْنَيْ شمشون" وأرغمت هذا الثور الأمي الصهيوني الذي كان في عضلاته أول بذور الصهيونية، أرغمت هذا – القوة الهمجية – الذي كان يربط قصاصات النيران في ذيول بنات آوى ويطلقها في زمن الحصاد، لتحرق حقول قمح أجدادنا الفلسطينيين القدامى.. غزة أرغمت هذا الشمشون على أن يفعل رغم إرادته شيئا مفيدا: أن يجر طاحون المعصرة، وأن يكتب معادلة موته : “السم الصهيوني ضد الزيت الفلسطيني". وفي سيرته يأتي معين أيضا على إفشال غزة في الخمسينيات، مشروع توطين اللاجئين في سيناء، ما دفع إسرائيل للقيام بغارات على المدينة، وهو ما يقرؤه المرء أيضا في قصة غسان كنفاني "ورقة من غزة" ، بل وفي روايته "ما تبقى لكم" (1966). في أثناء الحرب الأخيرة على غزة كان محمود درويش حقا هو الأكثر حضورا ، حتى من معين بسيسو نفسه، الذي اعتبر غزة ملكيته الشخصية، وكتب عنها نصوصا كثيرة: قصائد ومسرحيات وسيرة ذاتية أيضا، فلماذا لم يحضر معين بالدرجة الأولى؟ لست معنيا الآن بالإجابة عن السؤال السابق، فما يهمني هو حضور نصوص محمود درويش ، الغائب الحاضر. لم يقم محمود درويش في غزة ، وكنت ، وأنا أقرأ أشعاره الصادرة في سبعينيات القرن العشرين، كنت أظنه زارها . في قصيدته "الخروج من ساحل المتوسط" من ديوانه "محاولة رقم 7" (1974) يكتب:
“وغزة لا تبيع البرتقال لأنه دمها المعَلَّب، كنت أهرب/ من أزقّتها ، وأكتب باسمها موتي على جميزة، فتصير سيدة/ وتحمل بي فتىً حرّاً" وهي قصيدة شاعت وانتشرت وحفظ بعض أبناء غزة ، زمن كتابتها، بعض مقاطع منها. كانت غزة يومها تقاوم ، وكانت توجع الإسرائيليين ، ما دفع بوزير الدفاع الإسرائيلي في حينه (آريئيل شارون) إلى هدم أحياء كاملة في مخيماتها، حتى لا يخرج من أزقتها الفدائيون الذين يختفون بسرعة إذا ما لاحقهم الجنود الإسرائيليون. و في الستينيات والسبعينيات، تحديدا في 1967 و1971 ، سرت إشاعات في غزة أن شواهد قبور الشهداء تتمايل وتتحرك، كأنها تريد مقاومة الاحتلال . وقد أورد هذه القصة الروائي إميل حبيبي في روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) ، وهو ما أشار إليه محمود درويش في قصيدته المذكورة:
“إذن تتحرك الأحجار، إن طلعوا ، وإن ركعوا، وإن مروا، وإن فروا"
و “تنفُّسُ القبر القديم ، تحرك الحجر..استرد دبيبه منكم" وربما كان النص الأكثر حضورا لدرويش في أثناء الحروب على غزة ، هو نصه النثري الذي كتبه في السبعينيات ونشره في كتابه النثري الجميل "يوميات الحزن العادي" . هذا نص طازج كأنما كتب للتو ، بل إن المرء حين يقرؤه يتخيل أن صاحبه كتبه في أثناء الحرب الأخيرة الدائرة. كان العدو الإسرائيلي بعد اتنصاره في حرب 1967 ، مبتهجا بأحلامه ومفتونا بمغازلة الزمن – والتعبير لدرويش- إلا في غزة التي كانت بعيدة عن أقاربها ولصيقة بالأعداء : “لأن غزة جزيرة كلما انفجرت، وهي لا تكفُّ/ عن الانفجار خدشت وجه العدو وكسرت أحلامه وصدته عن / الرضا بالزمن./ لأن الزمن في غزة شيء آخر". هل قرأ محمود درويش كتاب الناقد المصري غالي شكري "أدب المقاومة" ولم يرُقْ له رأي شكري حين كتب أن شعراء فلسطينالمحتلة عام 1948 هم شعراء احتجاج لا مقاومة ، لأنهم لا يدعون إلى المقاومة بالسلاح ، فكتب نصه عن غزة؟ ما كتبه درويش في نصه هذا "صمت من أجل غزة"، يبدو وكأنه كتبه الآن أيضا، ولم يعد الشاعر يكتب عن المدينة إلا حين زارها في 1996. في كتابه "في حضرة الغياب" (2006) ، يأتي على عودته، إثر اتفاقات أوسلو، إلى فلسطين ، وحين عاد سافر إلى غزة أولا، لا إلى رام الله، فلم ترق له المدينة التي وصفها بأنها "مدينة البؤس والبأس" . زار درويش في الضحى الحار، المخيمات ومشى بصعوبة في الأزقة، وخجل من الماء والنظافة و "ولا تصدق ، كما لم تصدق أبدا، أن أوعية البؤس هي الشرط الوحيد لتخليد أو تأكيد حق العودة. لكنك تتذكر ما ينبغي لك ألا تنساه: ضمير العالم. وتشتم نظريات التقدم ونقدية التاريخ التي قد تعيد البشرية إلى الكهف". وفي أثناء الحرب الأخيرة على غزة ، كان درويش الغائب الحاضر. ناقد من فلسطين العربية