«إلى شعبنا الفلسطيني في زنازين الأرض المحتلة يرفض أن يستنكر فلسطينيته» هكذا أهدى الشاعر الفلسطيني الراحل «معين بسيسو» كتابه «دفاتر فلسطينية»، الذي يدرج تحت جنس السيرة الذاتية، فعلى الرغم من أن أكثر صفحاته تأتي على تجربته في السجون، إلا أنه أيضًا يكتب عن حياته في مصر وغزة والعراق، كما يكتب عن طفولته وأمه وأبيه وأهله ورفاقه في الحزب الشيوعي. يصادف اليوم الذكرى ال30 لوفاة «شاعر الأرض والمقاومة»، الذي مات في لندن، وأرق موتُه بعض أصحابه وترك أثرًا عليهم، لأنهم أخذوا يخافون من أن يموتوا غرباء، أو في غرفة في فندق، دون أن يلتفت أحد إلى موتهم، إلا في فترة لاحقة. وبالتزامن مع هذه الذكرى تقرأ لكم «البديل» من كتاب «دفاتر فلسطينية»، الصادر في العام 1978، والذي أعادت نشره دار صلاح الدين في القدس، ثم أعادت منشورات شمس في المثلث طباعته، وقد ترجم إلى لغات عديدة، منها الروسية الألمانية. تضمن الكتاب 12 فصلًا، صدرت في مرحلة كارثية –بحسب تعبير بسيسو- مرحلة مطاردة الفلسطيني اسمًا وجسدًا وموقفًا سياسيًا، وبالذات حينما يكون انتماؤه للجماهير ومستقبلها سيطيل أظافر كل القوى التي تعتبر أن حائظ الزنزانة –وليس الورقة- هو الذي يجب أن يكتب عليه الشيوعيون والتقدميون دفاترهم. وتجده يبدأ فصله الأول «النزول إلى الماء» قائلًا: علمتني الزنزانة السفر لمسافات بعيدة، وعلمتني أيضًا الكتابة لمسافات بعيدة، فالسجين دائمات يسافر بيده في الماء ويحاول الكتابة بصوته، ثلاثة أشهر لم نر فيها لا جريدة ولا كتابًا، أحد المعتقلين لتخفيف هول العذاب طلب القرآنفأحضروا له التوراة، قالوا (إن الزنزانة نجسة، والقرآن لا يدخل الزنزانة، هكذا فرضو علينا نحن المعتقلين الفلسطينيين في السجن الجربي آلة إسرائيل. وهكذا عاد شمشون الإسرائيلي من جديد. كتب «بسيسو» هذه الدفاتر بأسلوب شاعري جدًا، كما أن فيه تنوع في الأسلوب، ربما لم يتحقق كثيراً في نصوصنا النثرية، يسرد (معين) تارة بضمير الأنا، وطوراً بضمير النحن، وثالثة بالضمير: الأنا/ أنت، والنحن/ الأنتم، ويجرد من نفسه شخصاً يخاطبه. وينوع في صيغ الأفعال. أهمية هذه الدفاتر أنها كتاب نثري أنجزه شاعر. في مقطع آخر يقول: على حائط كل زنزانة يحاول السجين أن يرسم سفينة أو طائرًا، فالسفينة في السجن هي دائمًا هدية السجين القديم للسجين الجديد: (لن يتمكنوا من قتللك ما دمت مسافرًا)، إنها وصية وصية السجن الجالدة، ولأن وصية السجن تنطبق على السجان أيضًا، فكان يسافر بصوته، في الليل كان يغني لنا، كان يغني للمعتقلين الفلسطينيين الذين ضربهم وجعل الكلب (لاكي) يعضهم. هذا كتاب جارح وحزين، صاغه «بسيسو» بشفافية بالغة فأثار إعجاب قرائه، واعتبره كثيرون وثيقة أدبية من طراز رفيع تحكي واقع المخابرات العربية والمؤامرات ضد اللجوء الفسطيني. كما يرسم فيه الحياة الفلسطينية قبل الاحتلال، وأجواء الاحتفال بالشهر الكريم، فيقول: «في رمضان كانوا يحضرون شاعرًا لكي يغني لهم مسيرة (أبو زيد الهلالي)، كنت أجلس تحت النافذة وأصغي للشاعر حتى خيوط الفجر الأولى، وما أكثر ما كانت أمي تجدني ممدًا تجت النافذة، من يومها أحببت الشاعر وأحببت ربابته، بعدها كنت أهرب إلى المقهى وأنا في الثالثة عشرة من عمري، لاستمع إلى الشعراء الجوالين.. هذه المخلوقات العجيبة التي كانت تتقمص شخصيات السلاطين والجن والأبطال.. في آخر الليل كانت الكراسي ترتفع والزجاجات تتطاير؛ لأن أكثر ما أرغموا الشاعر بربابته على إطلاق سراح (أبو زيد)..». من يومها أحب «معين» الشعر والشعراء الجوالين الذين كانوا (يعتقلون الجن والملوك والأبطال ويطلقون سراحهم أيضًا»، ومن يومها قدر لهذا العالم أن يقرأ دفاتر فلسطينية كتبها «بسيسو»، وقاوم بها ثقافة الاحتلال.