كان لا بد للمرأة العجوز «ريجباري» أن تواجه الشر الذى تمثل فى عدوان الغربان والطيور، على حقلها لحظة اكتشافهم ظهور بوادر ثمار محصولها، خاصة أن الشر تبدى دون قناع، إذ راح يفرض عنفه المطلق فى مباشرة عارية؛ بهجومه دون رادع، وإفساده المحصول. يقال إن العجوز «ريجباري» كانت من أشهر الساحرات فى «نيوإنجلاند»، وصحيح أنه من الشائع أن من ينتمون إلى دائرة السحر، يروجون ويدعون أنهم بمساعدة شيطانهم يمتلكون الاقتدار على خرق أى حدود، كى يخاف الناس من شرورهم، ويؤمنون بسحرهم، وصحيح أن العجوز لديها شيطانها الذى يدعى «ديكون»، لكن الصحيح كذلك أن العجوز الساحرة لم تفكر فى الطيران فى الهواء، أو غير ذلك من الحيل الشيطانية، لمطاردة الغربان والطيور وإحراقهم؛ لكنها قررت أن تصنع «فزاعة» تشبه رجلاً حقيقيًا، تخيف به أى مخلوق مهما كانت مكانته- وفقًا لوصفها- حتى لو كان وزيرًا. يقال إن السؤال فى بعض الأحيان يكون مجلبة للشك، وإن كان من جانب آخر يجنب الإبحار فى المجهول؛ لذا نسأل: ترى هل تعلن العجوز الساحرة اقتدارها اللامحدود، ليس على إفزاع الكائنات المغايرة لها كالغربان والطيور؛ بل أيضًا إفزاع من هم من جنسها البشري؟ ولأنه يقال أيضًا إن السؤال أحيانًا يسقط اليقين،؛ لذا نسأل ترى هل تملك العجوز الساحرة قدرة سحرية حقيقية، تحقق لها أهدافًا حقيقية؟ ترى لو أن العجوز الساحرة تملك هذا الاقتدار، فلماذا إذن أقدمت على استعادة «الفزاعة»، بوصفها الموروث المستخدم من الناس جميعًا فى مواجهة الغربان والطيور، إذ إن استخدامها لهذه «الفزاعة» الموروثة يبدد كل ادعاءاتها، ويؤكد أن شيطانها ليس رهن طلبها؟ استدعت الساحرة شيطانها «ديكون» ليشعل لها غليونها، وأخبرته بأنها ترغب فى أمرين جد مختلفين، هما صنع «فزاعة» لإخافة الطيور، بشرط أن تكون على هيئة رجل جميل ونبيل؛ إذ مع أنها ساحرة فإنها ترفض أن تضع على عتبة بيتها شيئًا مرعبًا يخيف الأطفال. ترى هل وفقًا لهذا المنظور الثنائى والمختلف عن الموروث، تفقد الفزاعة تأثيرها؟ ترى هل العجوز الساحرة بذلك تعاكس كل الأعراف للتدليل على اقتدارها؟ صنعت العجوز «الفزاعة» من عصا المكنسة، وبعض العصي، وكيس محشو بالقش، وصنعت الرأس من ثمار القرع المستدير الجاف، وحفرت فيه حفرتين للعينين، وثالثة للفم، وألصقت كتلة للأنف، ثم كست الفزاعة بالملابس، وألصقت على الرأس شعرًا مستعارًا، ووضعت فوقه قبعة متسخة لها ريشة طويلة، ورغم استحالة المماثلة بين ذلك المسخ والبشر؛ فإن العجوز راحت تتأمله بنظرة الأمومة، مؤكدة أن له وجه إنسان رائعا، ورفضت أن يقف لإخافة الطيور، فقررت أن تمنحه فرصة ليعيش فى هذا العالم الذى يعج بأمثاله من رجال القش وغيرهم من الفارغين. تري: هل تخلت العجوز عن حماية محصولها؟ بدأت العجوز تمارس مسرحة الواقع واصطناعه، فوضعت الغليون فى فم الفزاعة، فإذ بالواقع يهاجر ليحضر الوهم بديلاً، وتصبح الفزاعة كائنًا بشريًا له هيئة رجل يدخن ويتكلم. أخبرته العجوز بأن اسمه «ذو الريشة»، ثم راحت تحشده ليضع حدًا بين واقعه الذى كان، وما اصطنع له وأصبح عليه، بوصفه أفضل رجال المدينة، ثم زودته بمبلغ كبير من المال؛ لكى يؤسس مسعى انطلاق دوره العظيم فى العالم، وخوفًا عليه من التيه، سلمته عكازها ليقوده إلى منزل أهم تجار المدينة الوجيه «جوكين» وابنته التى ستصبح له، وهمست فى أذنه بالكلمة التميمة التى سوف ينقلها بدوره إلى أذن الوجيه عندما يلقاه، وأفاضت العجوز فى رصد ضروب الأحداث المتوقعة، وأشارت عليه بما يلزم لها من استدراكات. تبدى «ذو الريشة» وهو يمشى كالنبلاء بمعطفه الفاخر، وعلى صدره نجمة، وبيده عكاز ذو مقبض ذهبي، ويمسك بيده اليسرى غليونًا مزينا بالنقوش، مستدعيًا افتتان مشاهديه. عندما وصل « ذو الريشة» إلى منزل الوجيه «جوكين»، وتعرف إليه، على الفور أنجز تعليمات الساحرة بأن همس فى أذنه، فما كان من الرجل إلا أن قدم ابنته الجميلة «بولي» إلى «ذى الريشة»، فراحت تمعن فيه كثيرًا فتزداد انبهارًا، حتى وقعت فى حبه بتأثير تألق النجمة المشعة على صدره، والشياطين التى ترقص حول غليونه، وإذ بغتة بدأ « ذو الريشة» يفتر، خبت أشعة النجمة، وصارت ملابسه أقل جمالاً، نظرت إليه الفتاة فصرخت وسقطت مغميا عليها، تطلع «ذو الريشة» إلى المرآة، فرأى حقيقته قبل تأثير السحر، فغادر على الفور متجهًا إلى العجوز الساحرة، التى ما إن دخل إليها وغليونه مشتعل، والنجمة تشع فوق صدره، وملابسه لم تفقد منظرها الفخيم، حتى سألته عن الخطأ، فأجابها بأنه رأى نفسه فى المرآة قبل السحر، فشد ما كان تافهًا وفارغًا، ثم نزع الغليون من فمه، وأطاح به، وسرعان ما سقطت فوق الأرض كومة من العصى والقش والثياب الرثة، عندئذ علقت العجوز الساحرة مخاطبة الفزاعة بقولها: «يا ذا الريشة المسكين، من السهل عليَّ أن أمنحك فرصة ثانية، وأن أرسلك غدا، لكنى لن أفعل»، ثم أعلنت مؤكدة أن الناس لو أجادوا أعمالهم مثل «الفزاعة»، لأصبح العالم أفضل. ولا خلاف أن ما صرحت به العجوز الساحرة، يعد رنينًا لدلالة قرار فى ذهنها مفاده أن « فزاعتها» ستتولى حماية محصولها. إنها ذات «الفزاعة» الموروثة شكلاً، لكنها « الفزاعة» المتفردة، التى لا تماثلها، ولا تشاكلها، ولا تقاربها «فزاعة» أخري، إذ تخيف حتى البشر. إن الساحرة العجوز اصطنعت ل «فزاعتها» حياة خاصة، وشكلت لها وفق حساباتها حكاية، عندما يجرى تناقلها وتداولها، تؤكد تفوق الإمكانات السحرية للعجوز، التى باقتدارها أحالت «فزاعتها» كائنًا بشريًا يتكلم، ويدخن، ويعشق، وأسكنتها مظهرًا مخالفًا لها، وذلك ما يعد دليلاً على إطلاقية سطوة الساحرة العجوز. بالطبع استنجدت العجوز بمخزونها التقليدى من الإيهام، فراحت تحلق باصطناع مشاهد متوالية، غير حقيقية ومدهشة، لا تشغل أمكنة، إذا هى وهم مصطنع يولد أحداثا ليس لها أصل، ولا تحيل إلى واقع حقيقي، وتروى على أنها سحر وقع بالفعل. إن قصة « الرأس ذو الريشة» للكاتب الأمريكى «ناثانيل هوثورن» المتوفى 1864، تتمفصل مع ما طرحه المفكر الفرنسى «جان بوديار» المتوفى 2007، فى كتابه الرائع « المصطنع والاصطناع»، حيث يؤكد أن الأشياء الحية وموضوعاتها، أصبح يستعاض عنها باصطناع مشاهد وهمية متخيلة لغواية الآخرين، إذ الاصطناع هو مبادلة الواقع ببديل إجرائى مبرمج؛ لذا لم يعد الواقع ظاهرًا؛ بل محتجبً خلف واقع مصطنع، قادر على ابتزاز الواقع واغتياله، ومهمته - مثل السحر- تخريب النظرة السوية إلى الواقع، وهو ما يتبدى فى السياسة، والميديا، والحرب. ترى من الذى اصطنع لنا هذا القدر من التنظيمات الإرهابية فى المنطقة، وأغواها باحتراب الإسلام ضد الإسلام، ومدها بالمال والسلاح، اغتيالا لواقعنا، وحجبا له بطرح واقع مصطنع بديل هو التقسيم؟ لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى