تطرح التحديات والمخاطر الإقليمية التى تواجه علاقات وهياكل "العيش المشترك" بين شركاء الحضارة العربية الإسلامية الواحدة فى مصر والوطن العربى فى اللحظة الراهنة أهمية استدعاء النماذج التاريخية الملهمة التى تعيد إلينا الثقة الكاملة فى سلامة عقائدنا الوطنية وفى تماسك انتمائنا المشترك إلى حضارة واحدة يصعب على المحتل والدخيل تفكيكها واختراقها بهدف تحقيق مصالحه ورغبته المزمنة فى السيطرة على مقدراتنا ومواردنا. احتفلت دار الهلال منذ أسابيع قليلة بالتعاون مع السفارة اللبنانية فى القاهرة بمئوية رحيل الكاتب الكبير جورجى زيدان (1861-1914) الذى تدعونا حياته وكتاباته وأعماله للتأمل الهادئ فى ذلك النموذج الفرد للمثقف الذى آمن ومارس وجسّد - عبر سنوات عمره - ما أدركه من معنى وعمق وعبقرية ظاهرة "العيش المشترك" فى مشرقنا العربي. اشتهر جورجى زيدان برواياته التاريخية التى تصور الحياة فى العصور الإسلامية المختلفة. فألف 22 رواية تاريخية جعلها متسلسلة منذ ظهور الإسلام، تتناول كل واحدة منها عصراً تاريخياً فتصف رجاله وعاداته وحوادثه مع المحافظة على الأصل بقدر الإمكان. ومع ذلك يبدو أن تصدى أحد الكتاب المسيحيين لكتابة " تاريخ التمدن الإسلامي" بأجزائه الخمسة قد أثارت بعض الحساسيات لدى كبار العلماء والفقهاء المسلمين المعاصرين لجورجى زيدان. وقد انبرى عدد منهم لتفنيد بعض ما عاينوه من قصور فى مادته التاريخية وأيضاً فى نقص إحاطته بكل أحكام وأطروحات ومناهج العلوم الإسلامية. وكان على رأس هؤلاء النقاد الذين أسهموا بالتعليق المهذب والانتقاد الرقيق ، الشيخ محمد رشيد رضا حيث كتب يقول : .. ولكن الرجل (جورجى زيدان) أقدم على هذا الأمر ولم يعد له كل عدته، ولا أخذ له جميع أهبته... وظن أنه يكفيه من الاستعداد لذلك اقتباس أسلوب الإفرنج فيه ومراجعة كتبهم العربية الجامعة لمادته، ككتب الدين والأدب ، والتاريخ والنسب، وإن كان لم يأخذ هذه العلوم عن أهلها ، ولا عرف فرعها ولا أصلها، ولعله لم يقرأ شيئاً من كتبها قراءة دراسة وبحث ، إلا بعض كتب التاريخ المعروفة ، لأنه لم يكن مسلماً ولم يترب فى مدرسة تقرأ فها العلوم الإسلامية، لم يكن له باعث على تحصيل هذه العلوم .. ومن كان هذا شأنه لا يتسنى له فهم ما يراجعه من المسائل حق الفهم. على الجانب الآخر، يرى الدكتور حسين مؤنس أستاذ التاريخ الإسلامى الأسبق بجامعة القاهرة أن جورجى زيدان ، بمعرفته للغات واطلاعه على المناهج الحديثة فى علم التاريخ الغربى كان أشبه بهمزة وصل بين الحركة العلمية العربية الناهضة وحركة الاستشراق المتدفقة النشاط فى أوروبا وأمريكا. ومن ثمّ فقد أحدث نقلة نوعية فى الدراسات العربية الإسلامية فى بدايات القرن العشرين. وهكذا بينما يرى د. حسين مؤنس فى الانفتاح على المناهج الحديثة وأبحاث المستشرقين تفاعلاً إيجابياً مع تيارات الحداثة الوافدة من العالم الغربي، فإن الشيخ رشيد رضا يعبر بقوة عن المخاوف التقليدية من علو تكلفة الانفتاح الكامل على تيارات التحديث الغربية والخشية من تآكل الهوية الحضارية الإسلامية فى مواجهة تيارات التغريب الجارفة. وهو خلاف قديم تأجج مع بداية القرن العشرين وما زال مشتعلاً حتى اللحظة الراهنة. بقى أن كتابات جورجى زيدان مازالت تمثل سبقاً فكرياً جسوراً ، فهى تجسد تطلع وطموح المسيحيين العرب إلى الاندماج الكامل فى كل مناحى الحضارة العربية الإسلامية معرفةً وممارسةً وانتماء. فرؤية صاحب "تاريخ التمدن الإسلامي" تؤكد أنه يرى نفسه منتمياً بالفكر والحضور الانسانى إلى الحضارة العربية الإسلامية. كان جورجى زيدان مواطناً عربياً مسيحياً يحمل كل هموم أمته العربية الإسلامية داخله ويسعى فى جد وإخلاص إلى نهضتها وتحديثها وإعادة بنائها بالاعتماد على جهد وإبداع كل أبنائها المخلصين، يعى تاريخها الحضارى العريق ويريد بعثه تاريخاً حياً فاعلاً معاصراً يصل إلى وجدان أبنائها ليوحدهم بها ويحميهم من الاغتراب الحضارى ومن عواصف الفرقة وضربات التشرذم. لقد غادرنا جورجى زيدان قبل أن تبسط الأيدى الخارجية خرائطها وترتيباتها "الجديدة" (فى سياق اتفاقية سايكس- بيكو الاستعمارية) فى 1916 على المنطقة العربية. واحتفلنا بمئوية رحيله ومنطقتنا العربية تتعرض للعبث من جديد، فتتمزق خرائطها القديمة ويداهم الزمن الجديد (زمن التفكيك ما بعد الحداثى) استبداد حكامها وهرم أنظمتها ، بينما يتبقى لنا أن نتشبث معاندين بنماذج ما زالت تحيا بيننا وتلهمنا من جديد بجدوى وإمكانية "العيش المشترك". لمزيد من مقالات نبيل مرقس