تتسارع الأحداث فى المنطقة العربية فى اتجاه معاكس تماما لحركة التاريخ، ولطموحات وأحلام الشعوب والنخب العربية. إذ بينما كان حديث الأمل والمستقبل، يدور حول «الوطن العربى»، صارت حتى أوطان الدولة الوطنية، مكون ذلك الوطن الكبير، مهددة بالتفتت والتشرذم بل بالاختفاء والزوال. فالناظر للخريطة العربية اليوم، يجد أن أكبر، وأغني، وأهم الدول العربية، قد تدحرجت إلى مصاف الدول الفاشلة. وهى-بالمعنى البسيط- هى تلك الدولة العاجزة عن بسط كامل سيطرتها وإرادتها على كل أومجمل ترابها الوطني. فقد تحولت دول الحزب الواحد البعثية- سوريا والعراق-الى عدد من الكيانات المتنازعة، وأخيرا ظهرت دولة جديدة داخل الدولتين. وللمفارقة، أن يكون هذا هو مصير سلطة كانت ترفع شعار:أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. فالعراق قضى على (صدام حسين) ولم يصل لبديل، لتتحول البوابة الشرقية إلى خلافة قادمة من كهوف العصور الوسطى. أما سوريا »الصمود والتحدي« او دولة الممانعة الوحيدة، فهى الآن مجرد ركام تتنازعه أكثر من أربع قوى على الأقل. ويتحول حلم «الوطن العربي» الكبير، بفضل الطغاة والمستبدين إلى قطع من الفسيفساء. فقد ربطوا بين وجود الأوطان صغيرة أو كبيرة- وبين وجودهم الخاص. وقد ظهر هذا التماهى بين الحاكم والوطن، حين اهتزت عروشهم وبدأوا فى تخويف شعوبهم وحلفائهم، بأن بديلهم سيكون الفوضي. والسؤال هو:هل كان الوضع الراهن، خيارا حتميا للتغيير؟ للأسف، تقول الظروف الموضوعية :نعم. قامت نظم الحزب الواحد ونظام حكم الفرد، بعملية ما يمكن تسميته ب«التسريح السياسي»- بلغة المصطلحات العسكرية - أى إعفاء المواطنين من العمل فى السياسة؛على أن يقوم النظام بذلك نيابة عن الشعب ،وباسمه. وكان التبرير لرفض التعددية السياسية بسيطا:ضرورة وحدة الصف الوطنى فى هذه المرحلة «الحاسمة فى تاريخنا». وأُردف التبرير بشعار : «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة!» والذى صار غطاءً شرعيا لكل أشكال القمع والمنع والاضطهاد، سنده القومية. وتبع ذلك، مقايضة خاسرة بين السلطة الاستبدادية والشعب، طرفاها التنازل عن الحرية مقابل ضمان الخبز والتحرير. وبالفعل حدث تنازل عن الحرية (الديمقراطية) أملا فى حشد الجهود من أجل تحرير فلسطين، وإنجاز التنمية. ولكن بعد عقود من التيه تحت الديكتاتوريات، اكتشفت الشعوب العربية أنها خسرت الاثنين: الخبز والحرية. ولذلك حين اندلعت الانتفاضات الشعبية مدشنة ما سمى ب:«الربيع العربي»، بعد عقود من التصحر السياسى، غابت فيها أحزاب سياسية حقيقية، وليست مصطنعة لتمثل دور الكومبارس فى «جبهة وطنية»، أو منابر تكوّن برلمانا أو مجلس شعب . كما غابت منظمات المجتمع المدنى الحرة التى لا تخضع لضغوطات السلطة أو إغراءاتها؛ فهى تزدهر فى أجواء ديمقراطية معافاة. وكانت حريات التعبير وتعدد وسائل الإعلام، تنسب مباشرة للمؤامرة وشق الصف الوطني. جاءت الجماهير العربية لمرحلة ما بعد «الربيع العربي«وهى غير مسلحة بأدوات سياسية تمكنها من خلق البديل. فقد كانت مغيبة تماما عن العمل السياسى الديمقراطى التعددي. ولم تكن خبراتها السياسية فى حجم تحديات المرحلة الراهنة. وكان من المتوقع أن تقوم النخب العربية بدورها الطليعى فى توعية الجماهير وتنظيمها. ولكن النخب العربية دخلت فى صراعات لا تتعدى سقف الطموحات الشخصية والتسابق حول الزعامات، واكتفت بالتنظير والتحليل فى وسائل الإعلام، متجنبة أى احتكاك بالجماهير. قامت المجموعات الإسلامية بملء فراغ النشاط السياسي، خاصة تلك التى لم يكن لها تاريخ فى العمل الحزبى المؤسسي. فقد كانت النظم الاستبدادية لا ترى فيها نفس الخطر الذى كانت تستشعره من اليساريين والشيوعيين والاشتراكيين. ولكن الفكر السياسى الإسلامى الذى تبنته هذه الجماعات، ساعد كثيرا فى تصعيد الفوضى الراهنة ممثلة فى مخطط تفتيت الأوطان. فقد تأثر أغلبها بكتابات (أبى العلاء المودودي) التى رفضت فكرة الوطن، والوطنية، والقومية باعتبارها ضد فكرة الأمة الإسلامية التى لا تعرف الحدود التى تحتوى على الدول الوطنية القطرية. وفى الفترة الأخيرة ارتفعت الأصوات المنادية بعودة الخلافة الإسلامية مما يعنى إلغاء الحدود القائمة. وتردد الجماعات القول بأن الحدود مصطنعة، ومن خلق الاستعمار. وهى كلمة حق يراد بها باطل، لأن قيام الدول الوطنية بحدودها المعروفة،كان هو أساس التطور السياسى والاقتصادى الحديث الذى عرفته أوروبا مع صعود البورجوازية.هذا وقد قدمت (داعش) نموذجا سيئا للخلافة الإسلامية، بدأ بالتعصب ضد المسيحيين والأديان الأخري. فمن الواضح أنه يستحيل الحديث واقعيا عن »خلافة معاصرة« دون اجتهاد دينى سوف يهز كثيرا من ثوابت الجماعات الإسلامية. ومن ناحية اخري، يمكن ان يندرج فصل جنوب السودان، ضمن الفكر الذى لا يمانع بأن يضحى بجزء من الوطن، إذ حدث تعارض بين حق المواطنة وتطبيق الشريعة الإسلامية، كمكون ثابت فى الإيديولوجيا الإسلامية. تسببت حالة الفوضى التى سادت بعد الانتفاضات الشعبية، فى تعطيل الحراك الشعبى فى بلد مثل السودان. فالنظام السودانى يهدد شعبه بمصائر سوريا، وليبيا، والعراق، واليمن،فى حالة رحيله. ويروج الإعلام الرسمى لفظائع الاقتتال الأهلي، والخراب والدمار الذى حاق بتلك البلدان التى قامت بالتغيير. وهنا يجد خيار الاستبداد أو الفوضى بعض المعقولية، خاصة وأن المعارضة ليست موحدة مما مكّن النظام من زيادة الخلافات وتعميقها، كما أنه يمارس اختراقا مستمرا لقوى المعارضة. وفى لعبة استباقية للانتفاضة،طرح النظام مطلع هذا العام فكرة الحوار الوطنى. وحاول تحييد فئات معارضة من دعاة الحل السلمى والحوار. والتى تظهر تخوفها من الصوملة، واللبننة. ويعمل النظام على توظيف هذا التخوف من أجل تكريس الأمر الواقع. بينما يبحث البعض عن مخرج سلمى لتفكيك النظام دون تكلفة عالية، مع تجنب تداعيات التغيير التى ضربت المنطفة. من المؤسف أن تهديد الطغاة العرب بالفوضى، كاد يصبح حقيقة. فقد أُصيبت قطاعات كبيرة بخيبة أمل ،وتراجعت آمالها فى الديمقراطية. وبدأت بعض الأصوات تردد القول بأن الشعوب العربية غير مؤهلة لممارسة الديمقراطية . رغم أن القاعدة تقول أن علل الديمقراطية تعالج بمزيد من الديمقراطية وليس بالحرمان منها «وداونى بالتى كانت هى الداء». ولكن هناك خطورة أبعد من ذلك، فقد بدأ البعض يستبطن خيار الاستبداد والفوضى، فيرددون مثلا: «نحن شعوب لا نجىء إلا بالكرباج». وهذه دعوة واضحة لاستمرار الاستبداد. وهكذا يسود المرحلة الراهنة، تشويش كامل وضبابية فى الرؤية، مما يصعب الخروج من المأزق، ويُعقد على الشعوب العربية عملية مواجهة مسئولية الحرية. فالتحديات عظيمة، والقدرة على الاستجابة الصحيحة غائبة.وبالتالى تتعاظم الحاجة للإرادة، والوعي، وحسن التنظيم. لمزيد من مقالات حيدر إبراهيم على