من النظرة الأولى ...كان يبدو كل شئ هادئا فى مكةالمكرمة.فقد استتب الأمر لأهل قريش الذين تركوا الشعاب والجبال وهبطوا إلى البلد الحرام يبنون بيوتهم ويعيشون ويتزوجون، يبيعون ويشترون، وتستمر بهم الحياة. نحن الآن فى زمن جد الرسول هاشم بن عبد مناف وأولاده. وكأن مكة كانت تنتظرهم لكى يضيفوا إليها رحلة الشتاء والصيف إلى الشام واليمن, أو طريق الإيلاف الذى كان يعنى خير التجارة ورزقها. وهذا الخير وهذا الرزق لم يكونا لينصبا فقط فى جانب الأموال التى يمكن أن تدرها قريش من تجارة المر والبخور والمسك والحبوب. فهذه الرحلة التى أوجدها ضيق الأحوال والأرزاق كانت مقدمة خاصة وتأهيلا من الله سبحانه وتعالى لأهل مكةالمكرمة. فلو لم يطلع هاشم فى هذه الرحلة لما عرف أهل مكة أن الدنيا من حولهم تتحرك، وأن هناك بلادا على امتداد أرض الحجاز لهم فى أهلها الأصدقاء و الأعداء. فهناك أخوة لهم يعيشون فى ممالك على طول حدود الحجاز وهم المناذرة والغساسنة، وهناك قوى أخرى وهم الفرس والروم وأهل الحبشة يبدون وكأنهم ملوك هذه الدنيا. فصحيح أن كثيرا من الرزق تجلبه التجارة, ولكن فى حالة قريش كثير من المعرفة والفهم تمنحه التجارة أيضا. ولهذا كتب على مكةالمكرمة أن تعيش أكثر من حكاية. حكايات اليمن السعيد كانت رحلة الشتاء إلى اليمن بلاد العرب السعيدة التى قامت على التجارة والزراعة . فعندما تملك الأرض وتبنى السدود فلابد أن يدخل الخير إلى بيتك، ولابد أن تكون لك علاقة بالجار فى صورة تجارة رابحة تضيف إلى أموالك وتؤمنك من غدر الأعداء. تلك ببساطة كانت فكرة أهل اليمن التى من أجلها ولدت ممالك عرفت التحضر. وإذا أردنا الإطلاع على المشهد بدقة فلابد أن نتوقف كثيرا عند سد مأرب الذى بدأ بناء متواضعا عند ملتقى طرق التجارة بين حضرموت وموانى البحر العربى والبحر الأحمر، و كان الغرض منه أن يلملم الأمطار الغزيرة التى تسقط على مرتفعات اليمن و قد تصبح مع الأيام سيولا تهدد ما حولها. الا أن هذا السد لم يقف عند حد كونه بناء بسيطا، فقد شهد كثيرا من التعلية. وبمرور الزمن أصبح سدا ضخما تطلب إصلاحه وترميمه استمرار الأعمال فيه لأحد عشر شهرا كاملا استهلك العمال خلالها 50806 أجولة من الدقيق حسب رواية الدكتور عبدالعزيز صالح. ومع هذا لم تمنح مثل هذه الأعمال والاصلاحات السد عمرا طويلا فسرعان ما انهار ليؤثر بالسلب على تاريخ اليمن. فالماء مرتبط بتاريخ التحضر فى جزيرة العرب وفى اليمن بشكل خاص. فعندما ينهار سد أو تنحسر مياه فلابد أن تضعف الدولة ويهاجر من أبنائها الكثيرون. ربما كان هذا هو سبب هجرة اليمنيين إلى بلاد الرافدين بدولة المناذرة وإلى الشام بدولة الغساسنة، وأيضا هجرة قبائل إلى الحجازسيكون لها شأنها فيما بعد مثل قبيلتى الأوس والخزرج. فالغساسنة ببلاد الشام التى كانت تبلغها رحلة الصيف جاءوا من اليمن بعد انهيار سد مأرب واستقروا فى الشام ليجد فيهم الروم حليفا قويا ضد الفرس وحلفائهم المناذرة الذين كانوا هم ايضا من مهاجرى أرض اليمن بعد إنهيار السد، وإن كانوا اختاروا لسكنهم أرض العراق ليصبحوا فى جوار الفرس وحلفاء لهم. فكانت رحلة الصيف تواصلا بين الحجازيين وأقرانهم العرب اليمنيين الذين كانوا يفتحون لقوافلهم أبواب التجارة. اليمن , مقصد رحلة الشتاء قد عرفت ممالك عدة منها مملكة سبأ و معين التى كانت أكبر وسيط لتجارة البخور. وكانت طرق تجارتها تخرج من نجران إلى نجد والحجاز .أيضا مملكة حمير التى كانت تبحث دائما عن الهيمنة التجارية. فكان للحميريين أسطول ضخم يجوب ساحل البحر الأحمر والبحر العربى ويصل إلى الساحل الأفريقى وخاصة منطقة رأس التوابل بالصومال. ووسط هذا المشهد والتتابع بين الممالك اليمنية من سبأ إلى حضرموت وقتبان ومعين وحتى مملكة حمير كان الناس يتعرضون فى تجارتهم لأفكار ويتأثرون بديانات ما لبثت أن انتشرت بعد أن بدت صاحبة أصوات خافتة فى البداية. فقد عرف أهل اليمن اليهودية والمسيحية. ويقال إن اليهودية حملها اليهود القادمون من أرض فارس بينما أنتشرت المسيحية على أيدى تجار الشام المسيحيين. يوسف بن آثار الا أن الديانتين ما لبثا أن دخلتا حلبة المنافسة بقوة عندما أصبح لكل منهما مؤيد سياسى يريد أن يثبت أقدامه, حتى أنه يقال إن أحد ملوك حمير وهو يوسف بن آثار قد اعتنق اليهودية، ولكنه فى الوقت نفسه أبدى كراهية للمسيحية. والسبب تخوفه من الوجود الحبشى المسيحى الذى كان يعنى بالنسبة له الاستيلاء على مقعد السلطة الذى يملكه. وبعد عدة مناوشات تحقق لآثار ظنه عندما نجح الأحباش فى عزله وولوا حبشيا على مدينة ظفار. الا ان الفرصة حانت من جديد بعد موت الحاكم الحبشى فأعاد آثار الهجوم، وحاصر نجران التى ضاقت الأحوال بأرضها وبلادها وظنوا أنه لا نجاة من قبضته حتى رضى وأعطى أهلها الأمان. فما كادوا يطمئنون إليه حتى انقلب عليهم وقتل منهم الآلاف فى أخدود كبير. وإلى الآن تختلف المصادر التاريخية, فلا أحد يعرف لماذا كان الأخدود وأين . فيروى لنا العالم الكبير د. عبد الرحمن الانصارى «يقال إن الأخدود كان فى منطقة السجستان, و هناك من يرى أن أصحاب الأخدود كانوا فى القسطنطينية . أما الرأى القائل بأن الأخدود كان فى نجران فيرى أن الملك الحميرى يوسف بن آثار قد دعا أهل نجران إلى الإيمان باليهودية، فلما رفضوا ترك دينهم وحفر لهم أخدودا و أحرقهم». وإذا كان الرأى الأخير صحيحا فإن مثل هذا الحادث فى نجران لا يمكن أن يمر مرور الكرام. فالأحباش سيرفعون أصواتهم مطالبين بالانتقام تحت اسم استعادة نجران من جديد، بينما الروم يرقبون المشهد من بعيد ويريدون أن يحققوا أكبر استفادة تضيف إلى رصيدهم ضد الفرس عدوهم اللدود. ومثل هذه الأحداث لابد أن تنجب حوادث ونكبات ربما تفوق كل التصورات والتوقعات. ففى غمرة ما حدث يظهر أبرهة على مسرح التاريخ. مجرد قائد فى حامية الحاكم الحبشى يستطيع بمكر و حيلة أن ينقلب على سيده ويستولى على كل شئ حتى أن نجاشى الحبشة لا يجد حيلة يدفعه بها بعيدا عن ملكه فيضطر رغما عنه أن يطلق يديه فى ولاية سبأ. ويجدها أبرهة فرصة لا تعوض ، فحلم الزعامة كان يناديه فى صنعاء التى اتخذها حاضرة حيث شيد كنيستين ضخمتين. وإن كان هناك من يقول إن إحداهما كانت فى رأيه كعبة أخرى بنيت فى نجران. ورغم هذا الإحساس الوهمى بامتلاك الأمر والسلطة الكاذبة الذى أراد أبرهة تصديره للجميع, فإن عرب اليمن يحاولون الانفصال عن الكيان الحبشى، فيحبط أبرهة جهدهم ويقوم بترميم سد مأرب الذى من أجله دعا ملوك الأرض ليشهدوا هذاالحدث. الا أنه يكتشف أنه لم يحقق شيئا, فخاتم السلطة يسقط من بين أصابعه بسبب مقاومة العرب. فيقرر فجأة أن يتوجه إلى مكةالمكرمة. أما لماذا؟ فالحقيقة غير معروفة للآن. وهناك من يقول إنه جاء لوقف طرق تجارة العرب التى كانت تمر بالحجاز و آخر يؤكد أنه جاء لهدم الكعبة المشرفة التى اعتبرها منافسا لملكه. فجاء إلى الحجاز على رأس جيش، وكان عاما من أصعب الأعوام أطلق عليه العرب اسم عام الفيل ...فماذا حدث فى مكةالمكرمة؟! سنعرف حين نستكمل الحكاية.