كلنا يعلم أن «أبرهة» غزا الحجاز بهدف هدم البيت الحرام فى نفس العام الذى وُلد فيه النبى صلى الله عليه وسلم. والمتأمل لقصة هذا «الأشرم» يستطيع أن يخرج منها بالعديد من الاستخلاصات التى قد تزيد فهمه للكثير من الأحداث التى شهدها الماضى وتتفاعل فى الحاضر وقد نقابلها فى المستقبل. و«أبرهة» كما تعلم كان ملكاً لليمن، ولهذا الأمر قصة قد يكون من المفيد أن أحكيها لك. دخل «أبرهة» اليمن ضمن الجيش الذى أرسله «النجاشى» ملك الحبشة بقيادة «أرياط» للانتقام من اليهود من أتباع «ذو نواس» ملك «حِميَر»، بسبب قيامهم بحرق نصارى نجران دون شفقة ولا رحمة. ذلك المشهد الذى حكاه القرآن الكريم فى سورة «البروج» التى حكت قصة «أصحاب الأخدود» وهم نصارى نجران الذين آمنوا برسالة المسيح وتركوا اليهودية التى كان عليها معظم أهل اليمن. فما كان من «ذو نواس» -الحاكم- إلا أن أمر بحفر أخدود عظيم أوقد فيه ناراً أعظم، وأخذ يراود أهل «نجران» عن دينهم ويخيّرهم بين العودة إلى اليهودية أو الحرق فى الأخدود، فما كان منهم إلا أن ثبتوا على ما هم عليه. فانتقم منهم بإلقائهم فى جحيم الأخدود. وتذكر كتب التاريخ أن «ذو نواس» حرق ما يقرب من عشرين ألفاً من نصارى «نجران»، ولم ينجُ من هذه المحرقة سوى رجل واحد، هرب من ذلك المشهد الرهيب ومعه «إنجيل» قد مسته النار، وطار به إلى «النجاشى» ملك الحبشة وكان على النصرانية، وأخذ يستغيثه ويستحثه على الثأر من يهود اليمن. أصرّ «النجاشى» على الانتقام من «ذو نواس» وأهل اليمن من اليهود، فكان أن سيّر إليهم جيشاً ضخماً بقيادة «أرياط» الحبشى، وكان من ضمن أمراء هذا الجيش «أبرهة» الذى كان يعمل تحت قيادة الأول. خاض الجيش الحبشى معركة سهلة مع جيش اليمن وانتهى الأمر باندحار اليمنيين، واستولى «الأحباش» على دولتهم، وأصبح «أرياط» ملكاً على الحبشة، وتبوأ «أبرهة» منصب قائد الجيوش، أو وزير الدفاع بالمصطلح الحديث. كان لكل من الحاكم «أرياط» وقائد جيوشه «أبرهة» وجهة نظر مختلفة فى التعامل مع الأرض الجديدة التى تم فتحها: «اليمن» وضمها إلى ملك الحبشة. فقد نظر «أرياط» إلى اليمن كمستعمرة ينبغى أن تستغل أرضها وتستثمر خيراتها ويستذل أهلها، ويصبحوا عبيداً لدى الفاتحين الجدد الذى ملكوا عليهم أمرهم، وكان يستغرب أشد الاستغراب ممن يحاول أن يبحث لنفسه عن كرامة من أهل اليمن، وقد كان من قبل منكفئاً ومنسحقاً أمام «ذو نواس». وفى المقابل من ذلك كان قائد الجيش «أبرهة» يرى أن «الأحباش» ليسوا أهل استغلال واستعمار، وأن الأولى بهم أن يجتهدوا فى فرض «النصرانية» فرضاً على أهل اليمن. وعندما عرض ذلك على «أرياط» سخر منه وأبى إلا أن يفعل ما هداه إليه تفكيره. وبمرور الوقت اشتد الخلاف بين الاثنين، حتى أخذ ما كان يقال فى الخفاء يجهر به فى العلن، وأصبح كل منهما يدبر أمره للتخلص من الآخر!