الحكايات فى مصر القديمة وبخاصة فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لا تنتهى وكلها تحمل ختم العبقرية ورائحة الأساطير وأجمل هذه الحكايات حكاية «المحمل» .. حكايات مغلفة بسحر الطابع الدينى و الدراويش والعلماء والمشايخ ورمال الصحراء، و» المحمل « هو هيكل خشبي تحمله الجمال يتقدم الموكب الذى كان يخرج من مصر كل عام حاملا كسوة الكعبة ويرافقه الحجيج الى بيت الله الحرام وقد ظل هذا التقليد منذ عهد شجرة الدر والمماليك حتى نهاية أسرة محمد على. وبداية قصة كسوة الكعبة وعلاقتها بمصر ترجع لعهد عمر بن الخطاب الذى كان يوصي بكسوة الكعبة بالقماش المصري المعروف بالقباطي الذي اشتهرت بتصنيعه مدينة الفيوم وينسب إسمه الي أقباط مصر، وكان المصريون ماهرين في نسج أفضل وافخر أنواع الثياب والاقمشه. ويقول دكتور سمير عمر إبراهيم إن السلطات المصرية كانت تجمع مبالغ كثيرة على شكل ضرائب لتغطية نفقات الصرة والكسوة الشريفة وإنه فى أواخر شهر شوال كان يصدر فرمان يودع بالمحكمة الشرعية يُذكر فيه إسم أمير الحج الذى سيتولى قيادة موكب « المحمل « الذى يصفه وليم لين فيقول أنه يبدأ اولاً بتقدم مدفع صغير يستخدم لإطلاق إشارة رحيل القافلة يتبع ذلك فرقتان من الفرسان الأتراك ثم عدة رجال راكبين الجمال وخلفهم مجموعة أخرى من الجمال على ظهورها قرب وصناديق تحتوى على الاموال التى سوف تصرف على الحرمين وأمتعة أمير الحج والكسوة الجديدة وهى تضم كسوة الكعبة وكسوة مقام الخليل وستارة باب التوبة وبيارق الكعبة والمنبر ويتخلل الموكب مواكب الدراويش وهم يحملون أعلامهم وبعض أعضاء طوائف الحرف وأئمة المذاهب الأربعة وقد يصل عدد الجمال فى الموكب الى مائة جمل . وكان المحمل يطوف الشوارع قبل الخروج إلى الحجاز وكان يصاحب طوفانه العديد من الاحتفاليات كتزيين المحلات التجارية والرقص بالخيول وكان الوالي أو نائب عنه يحضر خروج المحمل الذى كان يمر في شوارع القاهرة وخلفه الجمال التي تحمل المياه وأمتعة الحجاج وخلفهم الجند الذين سيحرسون الموكب حتى الحجاز وخلفهم رجال الطرق الصوفية الذين يدقون الطبل ويرفعون الرايات. وكانت الحكومة المصرية تسمح للراغبين من المصريين فى أداء فريضة الحج بالسفر مع قافلة المحمل « حتى يكونوا تحت رعاية أمير الحج وحماية الحرس ويتكفل أطباء المحمل بمعالجتهم وكان يتم توفير أسباب الراحة لهم وذلك بمبالغ الى حد ما زهيدة على أن يتقدم الراغب فى السفر مع المحمل بطلب قبل موعد السفر بخمسة أسابيع على الأقل وقد حددت الحكومة المصرية الخديوية مصاريف السفر كما تقول بعض المصادر ب 25 جنيها فى الدرجة الأولى على أن تشمل أجرة الجمل و الباخرة والوابور « القطار « وكذلك رسوم المحاجر الصحية و نفقات « المؤنه» الطعام أما السفر بالدرجة الثانية فكانت قيمته 23 جنيهاً والدرجة الثالثة 20 جنيهاً وإن اتفق اثنان من الحجاج على السفر بجمل واحد فتكون القيمة 14 جنيهاً . ويقول البرت فارمان قنصل أمريكا فى مصر فى الفترة من 1876 وحتى 1881 إنه كان يتم إعداد العدة لسفر الحجاج وتحمل القافلة أردية جديدة فى كل عام تسمى «الكسوة » وهى أبسطة فخمة تغطى بها جدران الكعبة وتصنع من الحرير الأسود المشجر وتُوشى بالذهب وتزين بالآيات القرآنية وتكلف الحكومة المصرية ما يقرب من 23 الف دولار كما أن مصاريف الحج التى تنفقها الحكومة تزيد على 330 الف دولار ، وتصنع هذه الكسوة من قطع صغيرة ترسل الى مسجد الحسين لحياكتها ببعضها البعض وعند الإنتهاء من أجزاء الكسوة توصل بها حاشية عريضة فاخرة وستار يعلق على باب الكعبة . ويضيف فارمان أن الدعوات لحضور هذه الإحتفالات كانت تُرسل الى الأجانب للحضور فيصل المدعوون فى الصباح الباكر الى قصر محمد على بالقرب من القلعة حيث تبدأ القافلة بالرحيل وهناك تشاهد فرق من مختلف طبقات الجيش قد إصطفت ، وقد أعد للخديو أو من ينوب عنه سرادق من القطيفة الحمراء والذهبية اللون وكذلك للوزراء وفضيلة القاضى والمفتى وبعض الشخصيات الكبيرة من العسكريين ورجال الدين والملكيين ولم يكن الخديو إسماعيل يحضر هذه الحفلات الدينية العامة بل كان يمثله الأمير توفيق ولى العهد الذى إستمر فى حضور هذه المناسبات عندما تولى الحكم ... وعندما وصل سموه إتخذ مقعده فى وسط السرادق وسرعان ما تقدم الجزء الذى كانت فيه الكسوة محمولة من الموكب فوقف الجمل أمام سرادق الخديو فتقدم سمو الأمير توفيق وأمسك الجمل من مقوده حيث سلمه الى فضيلة الشيخ أمير الحج وبهذا يكون قد أولى ثقته الى أمير الحج ومنحه السلطة على جميع من معه . والمحمل عادة ما هو الا محفة على جانب من الأبهة والفخامة ذات قمة هرمية عالية قد زينت بأبهى الزخارف وهى مغطاة بقماش موشى بالذهب وقد نقش على كل من جانبيها جزء من القرآن وكانت تصنع فى أول الأمر لنساء الخلفاء اللاتى كن يقمن بالحج ويقال أنه ظهر لأول مرة فى عهد الملكة « شجرة الدر « التى أدت الحج عام 1250 ميلادية فى محفة فخمة محمولة على جملين .. أما البعير الذى يحمل الكسوة فيزين بأفخر زينة ويقود القافلة فى الصحراء ويصبح مقدسا الى حد ما ولا يجوز إستخدامه فى أى غرض أخر ، ثم يعقب المحمل شيخ غريب الشكل هو قائد الجمال متين البنية ، شعره مضفر وطويل ، جسدة نصف عار ويتمايل على جمله وكأنه فى نشوة روحية ثم يخترق الموكب الشوارع الضيقة حتى باب النصر. وفى مثل هذا اليوم كما يقول فارمان توقف جميع الأعمال وتقفل الحوانيت والمحال الكبرى وتزدحم الشوارع بالأهالى فى أحسن ملابسهم وتزدان المبانى بأبهى المظاهر من أعلام وبيارق وتكتظ الأسطح والمنافذ بالأهالى من الجنسين ثم يتجه الموكب الى خارج المدينة فى الصحراء ويتقدم كل قسم فرقة من الموسيقى على ظهور الجمال وهناك يتواجد رجال القضاء والعسكرية بملابسهم الرسمية الفاخرة ونياشينهم الذهبية بالإضافة الى طوائف من الدراويش كل طائفة تختلف بإختلاف لون عمامتها وقد إشتغل البعض منهم بنوع من العبادة فى حالة دينية شبه جنونية وآخرون كانوا يأكلون الثعابين ويمشون على أطراف السيوف الحادة ويرشقون أسياخاً من الحديد فى وجوههم فتخترقها من خد الى آخر ، ثم تعسكر القافلة خارج المدينة ليومين أو ثلاثة وبعدها تبدأ التحرك فى طريق صحراوية تسمى « درب الحاج « ومنها الى قناة السويس حتى تصل الى الحجاز لتبدأ المناسك التى ما أن تنتهى حتى تبدأ رحلة العودة للقافلة التى غالباً ما تستغرق 60 يوماً وتقف عند الحجر الصحى لفترة على مقربة من السويس ثم تصل الى مشارف القاهرة ليلتقى الحجاج بأقاربهم وأصدقائهم وقد أحاطت بهم الموسيقى ومظاهر الأفراح .. أما عن الكسوة فقد حلت الجديدة محل القديمة التى تم تقطيعها الى قطع صغيرة يتم توزيعها على المساجد والمشايخ والأمراء والنبلاء للتبرك ، ويدخل الموكب المدينة مع بدء الإحتفالات بمولد النبى محمد صلى الله عليه وسلم فتكتظ الشوارع بالأهالى والسياح والأجانب وتزدان الحوانيت والاكشاك بالأنوار وترى الدراويش يحملون المصابيح الملونة مع الراقصين وحملة المشاعل بالإضافة الى صفوف طويلة من الأكشاك العامرة بالأطعمة والشراب والشمام والبطيخ كما تكثر أنواع الملاهى الوطنية والمراجيح واللعب بالعصا .. كل هذه الإحتفالات كانت تتم أمام الخديو أو من ينوب عنه الذى يجلس فى سرادقه محاطاً بكبار الموظفين والأمراء ويمر بالمكان عدد كبير من العربات الفاخرة تحمل حريم الخديو وقد إرتدين أبهى الثياب وتسترن بحجاب خفيف الى جانب حريم الباشوات والجاليات الأجنبية لمشاهدة هذه المظاهر الإحتفالية الرائعة التى سجلتها ريشة كثير من الرسامين العالميين ونشرتها كثير من الجرائد الإنجليزية والفرنسية القديمة ومنها اللوحة التى أعرضها اليوم للخديو توفيق وهو يسلم قيادة المحمل الى أمير الحج أمام عدد كبير من المشاركين فى الإحتفالية ... بقى أن أقول إن هذه الإحتفالية كان يتم الإعداد لها بمنتهى الدقة حتى أنه كان يتم إستخراج رخص لمرور الجمال المشاركة فى المحمل وكذا رخص للبغال التى تجر مدفع المحمل الشريف تحمل رقم البغلة المدموغة على رقبتها لتمر بدون مانع على شوارع المحروسة وكذا للسفر الى الأقطار الحجازية ... والله على مصر زمان .