سيد الوكيل مبدع وناقد طليعي من مصر, تخصص في السرديات, وأسس مع رفاقه جماعة نصوص90, حيث انطلق إلي آفاق التجريب والتجديد بكتابات نقدية وقصصية, حتي استطاع أن يقدم سبيكة طريفة من السرد النقدي, تمتزج فيه عملية النقد الشاملة للكتابة والحياة معا, وأصبح وهو في الستين من عمره الآن يمثل مرجعية لأبناء جيله, يعايشهم في أدق تفاصيل الوجود والتحقق ورهانات الطموح والإحباط. وفي كتابه الجديد الذي يصهر أمشاجا من سيرته الحميمة نري خواص إنتاجه, حيث يقدمه بعنوان مدهش وملتبس الحالة دايت مستخدما كلمة الممرض الذي نصحه بإنقاذ جثة أبيه من المستشفي المتواضع, بالتواطؤ مع سائق تاكسي ذات المصطلح الانجليزي المحرف, ليبرر طلبه لمائة جنيه كاملة نظير نقله كأنه مازال حيا بينما حالته مستغرقة في الموت. وإن كان المؤلف يضع عنوانا توضيحيا لعمله كي لا يخدع أحدا من قرائه; إذ يسجل وصف روايته بأنها سيرة الموت والكتابة وربما كانت فواجع الموت التي تتخطف أحبابنا من الكتاب والمبدعين والشهداء والثوار في هذا العام هي الخلفية تتشح بها ألوان هذا المشهد الأليم. يقول الراوي المؤلف في تمثيل دقيق لميثاق السيرة الذاتية الذي يجبر الكاتب علي التوقيع باسمه وتحرير أسماء شخصياته في الرواية إحالات ومقتبسات من أعمال سابقة لكاتبها وكتاب آخرين, كما أن جميع الأسماء الواردة هنا لكتاب معروفين هي أسماء حقيقية, لكنها تتجاوز الحقيقة بقوة الخيال, لكن أجمل ما في هذا الخيال المبدع هو ما يمثل مقصده في أن يجعل الكتاب والأدباء موضعا للكتابة; هؤلاء الذين كتبوا عن طوب الأرض, وجعلوا من البشر مجرد نماذج وكائنات ورقية, هاآنذا أنتزعهم من واقعهم الحي ليصيروا بأمري كائنات ورقية بائسة تثير الشفقة والسخرية, فكله سلف ودين. هذه المفارقة الغريبة علي الرغم من لهجتها الحادة تستجيب لحاجة ملحة يستشعرها المحيط الثقافي العربي; إذ فهم شباب الدارسين والنقاد من تيارات الحداثة في النقد النصي للبنيوية وما بعدها أنها تقتضي إهمال السيرة الشخصية والأبحاث البيوجرافية, فخلت العقود الأخيرة أو كادت من تسجيل حيوات المبدعين وكبار الكتاب حتي أوشك الزمن أن يطرح عليهم غلالة النسيان, وأحسب أن هذا النوع من الكتابة التي تميز بها سيد الوكيل, إلي جانب الدراسات الجامعية المعمقة في حنايا التاريخ الحقيقي للأدب هي التي يمكن أن تجبر هذا النقص الفادح وتتدارك فراغ الذاكرة من قوام الطاقة الخلاقة التي كمنت خلف فترة من أنضج فترات الإبداع العربي في الشعر والسرد والنقد, حتي ليمكن أن تعتبر هي القوة الذهبية لإبداع العصر الحديث. درجات الموت: لا يموت الأحباب طفرة واحدة سوي في الصدمات المأساوية الطارئة, غالبا ما يذوبون أمام أعيننا تدريجيا, مما يجعل تقبلنا لغيابهم الأليم, نشدانا للراحة. يجسد سيد الوكيل في مطلع سرديته موقفه من أبيه منذ أحضره للإقامة معه غصبا عنه, كي لا يموت بعيدا عنه كما حدث مع أمه التي تأخر في الاستجابة لطلبها رؤيته منشغلا عنها بموعد غرامي, لكن تدهور وعي الأب يجعلهم يعيشون في خوف وقلق عليه, إذ يحاول الخروج وحده من الشقة ليلا بنزق طفولي يتوهم أن أمه تنتظره; وعلي الرغم من وصول العلاقة بين الراوي وزوجته إلي درجة خطيرة من البرودة والتلف فإن حماسهما لرعاية أبيه, وتحملهما المشاق في هذا الصدد يعيد الحرارة المقطوعة, وتذهب الزوجة الطيبة إلي حد التصالح مع جارتها الشابة أم طارق لتتولي هي أو ابنها الصبي إحدي ورديات رعاية المريض خلال غيبة الزوجين في العمل, تعلق الزوجة علي ذلك قائلة: إن فكرة صحبة طارق له فكرة عبقرية, برغم الخناقات التي تقوم بينهما, وإن الولد ما شاء الله ناصح ويبلغ أمه بسرعة عن أي تصرفات خطيرة يعملها أبوك.. تصرفات خطيرة; كيف تحول الرجل الذي كنا لا نشعر بالأمان إلا في وجوده إلي مصدر خطر ؟ كيف أصبح طفل في السادسة وصيا علي أبي ؟ نحيت مجلة عالم الفكر التي كنت أقرأ فيها جانبا, ودفنت وجهي في صدر زوجتي وبكيت, أحست انكساري فاحتضنتني, تحول حزني إلي شبق هستيري, فرحت اقبلها بعنف وأنا أجهش, عندما هدأنا حكت لي عن شقاوة أبي مع أم طارق, قالت إنه امسك صدرها فيما كانت تسنده ليذهب إلي الحمام, يظهر هو كمان وقع في غرامها ابتسمت وتجاهلت تعريفها الأخير بي الغريب أن هذا الشبق الذي ينفجر في ظلال الموت سيمتد بعد ذلك في فصل مثير من الرواية بعنوان أحفاد آني يعرض فيه الكاتب لفلسفة كتاب الموتي الفرعوني ولفكرة ولع المصريين بالسكني في المقابر حيث يرون الموت منذ القدم صورة أخري للحياة. تراجم حميمة: يقدم سيد الوكيل في هذه السيرة عدة تراجم حميمة في سياق علاقات دافئة بعدد من المبدعين الذين غابوا في السنوات الأخيرة, من أهمها تلك المكالمة الطويلة مع نعمات البحيري قبل رحيلها حيث يقول عنها عاشت نعمات حياة قاسية مريرة في السبعينيات, تعرضت للاعتقال والاضطهاد البوليسي في مصر بسبب ضلوعها في الحركة الطلابية الرافضة لكامب ديفيد, اضطرت للخروج من مصر حتي استقر بها المقام في العراق هناك التقت أديبا عراقيا فتزوجا, وسرعان ما تعرض زوجها للاعتقال أيضا, وتعرضت هي للمضايقات من البوليس العراقي, أجبرت علي الانفصال وعادت لمصر مستكينة تلملم جراحها, كان المناخ السياسي لمصر قد تغير في منتصف الثمانينيات, وانتقلت حركة الصراع مع السلطة من المثقفين واليساريين إلي الجماعات الإسلامية من لغة الأدب والشعر إلي لغة الجنازير والسلاح, نعمات لم تخسر كل شيء, مازال لديها روح نضالية صلبة, تكتب وهي علي أسرة المرض وبين أروقة المستشفيات وتحت مشارط الجراحين, وتهدي لنفسها مجموعتها الأخيرة شاي القمر لتنفض عن نفسها غبار الأيام والمرض, نعمات تكتب أنوثتها بلا صخب, تعلن عن غضبها من خيانات المجتمع الذكوري وجروحه التي سكنت جسدها حتي أنهكته, عندما تكتب كانت تتهكم وتغزل وتغني وتلاعب القمر لقد أوردت هذا الاستشهاد المطول كي أجعل القارئ يستمتع بأسلوب سيد الوكيل وهو يمارس النقد العميق الشفاف للحياة وللكتابة في هذه السردية, بنسيج مرهف من الفطنة والثورية ودقة الرصد. لكن ما يعطي لروايته الذاتية مذاقها, ليس تلك المعلومات المذوبة فيها, بل اللفتات الإنسانية الرائقة, حوار المكالمة البديعة المفعمة بالشجن والمداعبات والإشارات اللماحة, وحكاية قطط نعمات هي التي تصنع النموذج الإنساني المباطن للمادة الأدبية, وكذلك الصور التي يقدمها سيد الوكيل عن ابراهيم فهمي ومحمد مستجاب ومجدي الجابري وسيد عبد الخالق وعلي الشوك وخالد عبد المنعم وغيرهم صور بالغة الرهافة والشجن, ثم لنقرأ له وهو يقول في نهاية سرديته تحت عنوان عزاء متأخر: لست الوحيد الطائر الحائر بين كثير من الناس يعتقد أن الموت والحياة وجهان لعملة واحدة, وقليل جدا من الناس من يستطيع أن ينظر إلي وجهي العملة في لحظة واحدة, العملة الواحدة في وقت واحد, الموت والحياة, النقد والإبداع, ما أروع أن تري الوجهين معا ثم ما أكثر عذاباتك هذا هو بيت القصيد في كتابة سيد الوكيل, حيث لا يمثل النقد كما كنت أخشي دائما دفقة الضوء التي تتلف صورة الإبداع عندما تقتحم حجرته المعتمة في نفس الكاتب, بل الوميض الخارج للعملية الرقمية المحدثة المدهشة الجديدة. المزيد من مقالات د. صلاح فضل