تتألف الدولة من الناحية النظرية من ثلاث سلطات مستقلة ومتوازنة هى السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فالسلطة التشريعية وظيفتها سن القوانين، والسلطة التنفيذية وظيفتها إدارة البلاد وفقا لهذه القوانين، والسلطة القضائية وظيفتها تطبيقهافى الفصل فى الدعاوى القضائية. وللسلطة القضائية هيئة دستورية عليا للفصل فى دستورية القوانين بما يتفق مع الدستور الذى تضعه لجنة تأسيسية ملتزمة بدورها بالمبادئ أو القواعد الملزمة، مثل حظر الإبادة الجماعية، والقرصنة البحرية، والعبودية وتجارة العبيد، والتعذيب، والحروب العدوانية والتوسع الإقليمي، فهذه القواعد والمبادئ هى المرجعية العليا لدستورية الدساتير ذاتها. وبعيدا عن الناحية النظرية الخالصة المتمثلة فى الأوهام القانونية والدستورية للأيديولوجيا الليبرالية، نجد فى عالمنا الثالث، بافتراض دستورية الدستور، أن السلطة التشريعية تقومبإقرارمشاريع قوانين من إعداد السلطة التنفيذية، فتصير قوانين السلطة التشريعية، رغم أن البرلمان لا يقوم إلا بإصدارها؛ ولهذا فإنها ليست قوانين پرلمانيةبل هى فى حقيقتها قوانين حكومية. وفى هذه الحالةلا تعدو السلطة التشريعية أن تكون مكتبا تشريعيا ملحقابالسلطة التنفيذية. وبالتالى فإن السلطة التنفيذية لاتقوم، من الناحية الفعلية، بتنفيذ قوانين تأتى من سلطة تشريعية حقيقيةخارجها، بل تقومبتنفيذ قوانين نابعة من داخل السلطة التنفيذية ذاتها. كما تغدو الرقابة الپرلمانية بالتالى رقابة من السلطة التنفيذية على السلطة التنفيذية عَبْرَ مكتبها التشريعى المسمَّى بالبرلمان! ومن ناحية أخرى تلتزم السلطة القضائية بهذه القوانين وتتقيد بها فى نظر الدعاوى القضائية. ولا لا تطبِّق السلطة القضائية قوانين سلطة تشريعية حقيقية بل تطبِّق قوانين نابعة من السلطة التنفيذية. وعلى هذا فإن ما يسمى «تغوُّل» السلطة التنفيذية ليس أمرا عارضا يخصُّ رئيسا أو حكومة بل يكمن فى صميم تكوين البنيان القانونى للدولة التى لا تتألف من سلطات، تنفيذية وتشريعية وقضائية، متوازنة ومستقلة، رغم وحدةٍ عليا تجمعها جميعا، فهى دولة تقوم على «خضوع السلطتين التشريعية والقضائية» بصورة لا جدال فيها للسلطة التنفيذية التى توظِّف السلطتين التشريعية والقضائية فى القيام بمهام بعينها لصالحها هي. ومن شروط عدالة القضاء أن يكون القانون عادلا، ولكن غياب هذا الشرط يكفى لنسف العدل من أساسه كما أنه ليس الشرط الوحيد لعدالة القضاء. ذلك أن القضاء يحكم حسب الأدلة التى تقدِّمها أو تُخفيها أو تفرمها الأجهزة الأمنية والمخابراتية وفقا لمصالح مسيطرة على السلطة والاقتصاد. ويكون خضوع السلطة القضائية للسلطة التنفيذية أقلّ من خضوع السلطة التشريعية لها. فبعيدا عن الطموحات السياسية والمغانم الاقتصادية عند مئات من «نواب الشعب»؛ نجد فيالسلطة القضائية عشرات الآلاف ممَّنْ تربَّوْا تربية قانونية فصاروا حاملين لروح القوانين ومقتضيات الضمير، عاملين على تمحيص القوانين والأدلة وشهادات الشهود ليخرجوا، رغم القانون ورغم الأدلة المشوهة أو المطموسة أو الملفقة أو الغائبة، بما يتفق مع ما تتوصل إليه اجتهاداتهم وتطمئن إليه ضمائرهم، مع التقيُّد الصارم بقوانين و«أوراق» السلطة التنفيذية. ويشترط وجود برلمان مستقل نسبيا وجود قوتين سياسيتين متوازنتين، كما فى البلدان الصناعية المتقدمة، مع استثناءات مهمة كالفاشية والحكم الشمولي. ورغم وجود برلمان وقضاء مستقليْن نسبيا، فى ظل الديمقراطية البورجوازية، فإن وحدة سلطات الدولةتكمن فى واقع أنها جميعا أدوات فى يد الطبقة الحاكمة. أيْ أنه لا يمكن تطبيق المبادئ النظرية المنمَّقة للدستور إلا عند وجود علاقات قوة متوازنة بين الحكم والمعارضة. وبالتالى فإن أساس وضمانة وجود توازنٍ بين سلطات الدولةلا يتمثل فى الدستور بل يتمثل فى الوجود المادى لقوتين متكافئتين. وإذا كان الشرط العام لوجودأو غياب سلطة تشريعية وسلطة قضائية مستقلتين نسبياهو وجود أو غياب قوتين كبيرتين متنافستين للطبقة الرأسمالية الكبيرة؛ فما هو الشرط العام لوجود أو غياب هاتين القوتين؟ وفى البلدان الصناعية المتقدمةيقوم استقلال السلطتين التشريعية والقضائية علينشأة وتطور آليات رشيدة للحكم بفضل الاختلاف الطبيعى بين مجموعات وقطاعات وأفراد وأحزاب الطبقة الرأسمالية الكبيرة حول طريقة حلّ القضايا والمشكلات الكبرى التى تواجهها. وتواصل هذه الآليات تطورها وينشأ بفضلها بصورة تاريخية تراكمية قطاعان وحزبان رأسماليان كبيران متنافسان. كما تنشأ وتتطور فى هذا الإطاربصورة تاريخية ديمقراطية شعبية من أسفل فى مواجهة الرأسمالية الكبيرة، وتعمل دائما دفاعًا وهجومًا على حماية وتوسيع وتطوير نفسها. ويرجع الغياب البنيوى للانقسام السياسى إلى قوتين كبيرتين متنافستين إلى غياب التحول الرأسمالى الحقيقي. وهذه هى الحالة التى تسود الرأسماليات التابعة فى العالم الثالث. أما الانقسام إلى قطاعين أو حزبين كبيرين، كما هو الحال فى الهند أو البرازيل، حيث يقف تحوُّلٌ رأسماليٌّ فى منتصف الطريق، فإنه الاستثناء الذى لا يمثل قطيعة مع نظام الحكم السائد فى العالم الثالث لأنه يقف على أرض من البؤس والحرمان والقهر والفقر والجهل والمرض حتى مع مستوياتٍ من تطور الديمقراطية الشعبية من أسفل. ولم يكن البرلمان المصرى طوال تاريخه سلطة تشريعية حقيقية بل كان أداة من أدوات السلطة التنفيذية، كماسنري. لمزيد من مقالات خليل كلفت