عزت سعد الدين نموذج للإعلامى المثقف، والإذاعى الذى يمتلك أدواته، لغةً، وحسًّا مرهفًا، وذوقًا بارعًا فى التصنيف والتمييز، والوقوع على الدرر الكامنة، فى كل ما يقرؤه ويبحث فيه، من ذخائر تراثنا العربي. هو إذن شاعر وباحث ومحقق وكاتب إذاعي، يستفيد من هذه الصفات جميعًا فى عمله مقدِّمًا للبرامج الثقافية والأدبية فى إذاعة البرنامج العام، التى يطل على الناس من خلالها فجر كل يوم ببرنامجه الإذاعى الشهير «زهور من بستان الحكمة»، وغيره من المشاركات الأدبية والثقافية. ومن منجزاته فى سياق اهتمامه بالتراث العربي، تحقيقه لكتاب «المُبهج» لأبى منصور الثعالبي، وقيامه بالكتابة عن أكثر من مئة وخمسين شاعرًا مصريًّا - مشهورًا ومغمورًا - ضمن من يضمهم معجم البابطين لشعراء العربية فى القرنين التاسع عشر والعشرين، وقد صدر فى الكويت منذ عدة سنوات. كما كتب عن غيرهم من الأدباء والشعراء المنسيين فى عدد من المجلات المصرية والعربية. وأذكر أن سعادتى كانت بالغة وأنا أقرأ ما كتبه عن معلم اللغة العربية الذى تتلمذت على يديه فى المرحلة الثانوية - فى مدرسة دمياط الثانوية - الشاعر الراحل أحمد عبد المجيد الشنهابي، الذى كان له دور الأبوة الحانية والرعاية المخلصة لمحاولاتى الأولى فى كتابة الشعر لغةً ووزنًا، بالإضافة إلى تأثُّرى بأسلوبه فى الأداء الشعري، الذى كان قد اكتسبه من خلال تلمذته للشاعر الكبير على الجارم. فقد عرفت من خلال ما كتبه عزت سعد الدين ما فاتنى عن هذا الأستاذ الذى كان نموذجًا فذًّا لمعلم اللغة العربية فى زمانه، صاحب الرسالة والدور التعليمى والتربوي، والذى يتسع صدره ووقته وطاقته واهتمامه لتلاميذه، اكتشافًا وحثًّا وتوجيهًا. وقد أسعدنى عزت سعد الدين - أخيرا - بكتابه «أشواق المحبين» الذى يضم مئتين وخمسين نصًّا يضمّ أقوالاً وأشعارًا ومواقف ومناجيات وتأملات ونصائح لمئة وسبعة وثمانين من المحبين والمتصوفين والعارفين والعباد والزهاد والشعراء والأدباء. الأمر الذى جعل من كتابه موسوعة ثرية بأجمل ما فى تراثنا العربى من كنوز، هى بمثابة الواحة الروحانية البديعة، والصفاء النفسى الأنقي، لمن يلتمس جلوات الحب والطمأنينة والسعادة والنور والجمال، فى عالم هو نبع الحب ومصدر الطمأنينة وينبوع السعادة ومكوّن النور وأصل كلّ جمال. وما زلت أذكر لأستاذنا الراحل الدكتور محمد غنيمى هلال - رائد دراسات الأدب المقارن فى الجامعات المصرية والعربية ما قدمه لنا - نحن تلاميذه - عن الحياة العاطفية فى الشعر العربى القديم، ومقارناته بين شعر الحب العذرى والحب الصوفى (شعر العشق الإلهي) وتأثرهما - كلٍّ بطريقته ونزعته - بالفيوض الإسلامية التى ذاقوها وامتلأوا بها وانسكبت فى أشعارهم، دعوة إلى التسامى والتطهر والتمسك بالقيم العربية النبيلة، ودعوة إلى معرفة الخالق عن طريق القلب، وتقربًا إليه بالمحبة، صعودًا فى درجاتها ومراتبها. يذكّرنى كتاب عزت سعد الدين، بالكشوف التى قادنا إليها أستاذنا الراحل، ونحن نتابع معه أشعار رابعة العدوية وابن الفارض والحلاّج وابن عربى والشهرزورى والسهروردى وغيرهم من أصحاب المقامات الرفيعة والإبداعات الباقية فى ديوان الشعر العربي، بالإضافة إلى آثار كثير من العارفين والزاهدين على مدى العصور. من هنا، يمكننا أن نفهم ما يقوله عزت سعد الدين فى تقديمه لكتابه: «هذه الصفحات تغاريد حب، وأناشيد أنس، وتراتيل محبة، صدحت بها قلوب عامرة بحبّ مولاها، هائمة بعشقه، ذائبة من فرط خشيته ومهابته، غائبة إلا عن الشعور بعظمته وقدرته ووحدانيته. تصف رابعة العدوية هذا العشق الإلهى الذى ملك عليها حياتها وأنفاسها فتقول: «ليس للمحب وحبيبه بيْن، وإنما هو نطق عن شوق ، ووصف عن ذوق، فمن ذاق عرف، ومن وصف فما اتّصف، وكيف تصف شيئًا أنت فى حضْرته غائب، وبوجوده ذائب، وبشهوده ذاهب، وبصحوك منه سكران، وبفراغك له ملآن، وبسرورك له ولهان. فما ثَمَّ إلا دهشة دائمة، وحيرة لازمة، وقلوب هائمة، وأسرار كاتمة، وأجساد من السُّقم غير سالمة، والمحبة بدولتها الصارمة فى القلوب حاكمة». يقول عزت سعد الدين: «هذه الصفحات حياة كاملة مع الله، من خلال قلوب عرفت فاتصلت فأنست، فعشقت فهامت، فاشتاقت بألوان الذكر وأشكال المحبة. عرفوا الحبيب الأعظم فامتلأت نفوسهم بأقباس من النورانية، وفاضت عيونهم بدموع الندم والخشية والتوبة، وعمُرت قلوبهم بوشائج المحبة الدائمة، ومقامات العشق وأحواله، فانسكب هذا كله فى النهاية شعرًا ونثرًا، ومواقف وحكايات، ومناجيات وابتهالات، وتأملات تفيض بالصدق، وتعمرُ باليقين، وتنطق بالمحبة والإيمان. إنها دفقات من الأشواق تجعل القلب دائم الاتصال بعالم الطهر والصفاء والنقاء. عشرات من المحبين والمتصوّفين والعارفين والعبّاد والزهاد والأدباء، التقوا معًا على شاطئ المحبة الإلهية، فراح كل منهم يملأ دنانه منها على قدْر استطاعته، فما نفد الشراب وما رووا». ويستشهد بما ذكره الدكتور محمد مصطفى حلمى وهو يتحدث عن نشأة الحياة الروحية أول ما نشأت فى الإسلام، نتيجة للرغبة العميقة فى التقشف والورع والزهد والتقوى وغير ذلك من مظاهر الانصراف عن الدنيا والإقبال على الدين، وهو ما كان عامًّا شائعًا بين المسلمين فى حياتهم الأولي، وهى الحياة التى كان فيها الرسول الكريم وأصحابه مُثلاً عليا يقتدى بها المسلمون فى القول والعمل. ثم يعلِّق عليه بقوله: «إذن كانت البداية تأثرًا بالرسول الكريم وأصحابه فى القول والفعل، ثم تطوّر الأمر شيئًا فشيئًا من مجرد الزهد فى متاع الدنيا وجاهها ابتغاء رضوان الله، إلى أن أصبح هذا الزهد وسيلة من وسائل القرب من الخالق جلّ جلاله، ورغبة فى مطالعة وجهه الكريم ومشاهدة جماله الأزلي. ثم تجاوز هذا كلّه إلى الغاية القصوى والغرض الأسمي، ألا وهو وصول الإنسان الزاهد المحبّ إلى مقام الفناء عن نفسه، والاتحاد بربّه، والأنس به أنسًا يجعله يستوحش عمن سواه». ثم يقول: «ومن يتأمل طويلاً فى الحياة الروحية الإسلامية يلاحظ أنها قامت على التصوّف برياضاته ومجاهداته وبأشواقه ومواجيده وبما انكشف عن قلوب أهله من الحُجب، وما كُشف لهم من الحقائق التى اتخذتها هذه الحياة الروحية فى مختلف العصور الإسلامية». وأعود - ثانية - إلى أستاذنا الراحل الدكتور محمد غنيمى هلال، وهو يُنبّهنا فى محاضراته عن الحياة الروحية فى الإسلام، وعن شعراء العشق الإلهى وفلاسفته ومريديه الأعلام من أمثال الحلاج والنفّرى والسهروردى والشهرزوري، إلى أن تصوّف هؤلاء جميعًا لم يكن تصوّفًا سلبيًّا، وإنما كان ممتلئًا ومتوهجًا بروح ثورية جارفة تواجه ظلم الحكام وطغيان الأمراء والملوك على رعاياهم، فكانت هذه القصائد والكلمات صوت الرعية، المعبر عن تطلعهم إلى العدل، والأخذ بحقهم ممن يملكون كل شيء ولا يعطون ما فرضه الله للفقراء والمساكين والمعوزين. هذه النزعة الثورية وهذه المواقف الإيجابية من الحياة والمجتمع، وظلم الحكام وقسوة الطغاة، كانت سببًا فى الكيد لهم من الحكام واتهامهم بالزندقة والخروج على صحيح الدين، ومحاكمتهم والفتك بهم، كما حدث لكل من الحلاج والسهروردي، اللذين كان قتلهما شهادة لهما بالدور الاجتماعى والثورى مضافًا إلى الدور الروحى والصوفي. وشكرًا للإذاعى والإعلامى عزت سعد الدين الذى أسعدنا - نحن قراءه - بهذا الفيض الجميل من كتابه البديع «أشواق المحبين». لمزيد من مقالات فاروق شوشة