أعادت الدراما المصرية خلال رمضان هذا العام سيرة بعض الشخصيات من تاريخ مصر المعاصرة , ارتبطت أسماؤهم بأعمال سياسية أو تاريخية .. أو حتى صروح من المبانى الدينية العريقة , ورغم أن بعضها جانبه الصواب فى سرد الحقائق كما يؤكد المؤرخون .. الا أن الفنانة «يسرا» تجاهد فى اظهار بعض ملامح شخصية خوشيار هانم أو ما عرفت «بالوالدة باشا» احدى الزوجات الأربع لوالى مصر ابراهيم باشا . والتى رزق منها بالخديو اسماعيل الذى أثرى مصر بعديد من الكنوز . واذا كان التاريخ يذكر لخوشيار هانم شخصيتها القوية والمتسلطة فى البلاط الملكى فى ذلك الزمن .. الا أنها حظيت بحب نادر من أهل مصر لأمرين بقيا على مر التاريخ أولهما تلك « الزيارة المنامية «أو الرؤية التى اختصها بها العارف بالله أحمد الرفاعى بطلب منها دون غيرها انشاء مسجد مكان الزاوية التى تقام فيها الصلاة وتحتوى على قبور الشيخ على أبو شباك حفيد الشيخ أحمد الرفاعى والشيخ يحى الأنصارى ..والأمر الثانى هو ذلك البناء الفاخر المسمى ب « مسجد الرفاعى» التى أمرت خوشيار هانم ببناؤه كما طلب الشيخ الرفاعى فى الرؤيا وأوقفت أموالها للبناء والصرف على المسجد فى قلب القاهرة الاسلامية والذى بدأ العمل فى بنائه سنه 1869 م . لبعض المساجد سيرة ذاتية لا تختلف كثيراً عن قمم وعباقرة البشر .. وتبقى سيرتها أطروحة يتردد صداها بين وجدان الزمن وجدران عمارتها. ومساجد القاهرة العتيقة تعبر عن حقب وعصور تاريخية تعاقبت عليها.. وتحمل بين جدرانها تاريخاُ وقصصاُ وحكايات وأحداث شكلت وجدان القاهرة الإسلامية المليئة بالزخم الثقافى البراق, تكونت وتشكلت عبر أزمان لها طعم المجد, وكان الإبداع فيها يعنى الحياة. وحمل كل مسجد اسم فارس من فرسان الخير .... بقيت آثارهم شواهد على عصور سجل التاريخ أعمالهم وسيرتهم أبطال فى ساحات البر. وعندما يقترب منا الحديث من فرسان الخير.. يمضى بنا المسار إلى ميدان قلعة صلاح الدين فى قلب القاهرة الإسلامية..هناك بجوار مسجد السلطان حسن فى مواجهة القلعة.. ترتفع الى عنان السماء ومأذن «مسجد الرفاعي» يصنعه أهل التراث وفن العمارة أنه أعظم ما أنشئ من المساجد فى القرن العشرين. وإذ شاء لك الحظ أن يمضى بك المسار الى داخل هذا المسجد العملاق.. سوف يذهلك روعة العمارة الإسلامية فى أزهى صورها.. وإذا امتد بك المسار إلى نهاية المسجد .. سوف يذهلك أيضا وجود أضرحة لكل ملوك مصر الذين أصروا على أن تكون نهايتهم داخل هذا المسجد بالذات.
الرفاعى والأميرة خوشيار
وتحتويك رغبة جامحة فى معرفة أسرار وتاريخ حكايات هذا المسجد التى تشكل طعماُ فريداُ لأحد قلاع العمارة الإسلامية والذى سمى باسم الشيخ على أبى شباك, حفيد السيد أحمد الرفاعى أحد أولياء الله الصالحين.. ويحكى تاريخ المسجد كما تقول سجلات هيئة الآثار الإسلامية.. إنه مكانه كان «زاوية» للصلاة تحتوى على مقبرة الشيخ على أبو شباك حفيد الرفاعي.. والشيخ يحيى الأنصارى أحد أتباع الرفاعي. ولا يعرف أحد لماذا اهتمت الأميرة خوشيار هانم والدة خديوى مصر إسماعيل بهذه الزاوية. وقيل فى الأسباب أن الشيخ الرفاعى الأب جاءها فى المنام وطلب منها إقامة مسجد له فى هذه الزاوية .. هكذا قالت الأميرة خوشيار هانم, عندما ذهبت تبحث عن هذه الزاوية التى لم ترها أو تسمع عنها إلا فى منامها عندما جاءها الإمام الرفاعى بنفسه.. وبدأت الأميرة تنفيذ الأمر الجليل وأوقفت كل ما تملك لصرف ريعها على بناء وصيانة هذا المسجد.. ثم أقامت ضريحاً لها داخل حدود المسجد الذى لم يكن قد اكتمل بعد.. وبدأ البناء سنة 1869م فوق مساحة 6500م.. ولكن الأحداث السياسية عطلت استكمال البناء الذى استغرق بناؤه33 عاماً كاملاً. إذ توقف البناء لتخلى الخديوى إسماعيل عن العرش.. ثم وفاة الأميرة الأم خوشيار هانم سنة 1885م ..ودفنها فى المسجد الذى لم يكتمل . وكان لتصرف الملكة الأم وما عاصر بناء هذا المسجد من أحداث أشبه بالكرامات أن نشأت علاقة روحية بين أسرة محمد على بأكملها ومسجد الرفاعي.. وكان أن أقام الخديوى إسماعيل بدوره ضريحا ملكيا له دفن فيه عقب وفاته سنة 1895م.. وأمام هذا الإقبال الملكى على هذا المسجد بالذات كلف الخديوى عباس سنة 1905م المهندس النمساوى الشهير (هارتس) باستكمال بناء المسجد على الطراز المملوكى الذى كان شائعاً فى أواخر القرن 19 , وأن يكون فى فخامة مسجد السلطان حسن المواجه له وأن يشبه فى عمارته أيضا أسلوب الخلط بين الطراز المملوكى والأوروبي, وقد تم الانتهاء من بناء المسجد سنة 1912م الموافق سنة1329ه بإقامة صلاة الجمعة فيه. وفى الجزء المخصص للأسرة المالكة ترقد الأميرة الأم خوشيار هانم وابنها الخديوى إسماعيل وأبناؤه.. كما يوجد مرقد وضريح السلطان حسين كامل أحد سلاطين مصر .. وأيضاً مرقد الملك فؤاد وعدد من أفراد الأسرة المالكة.. أما الملك فاروق آخر ملوك هذه الأسرة.. فكانت وفاته عام 1965م فى روما خلال السنوات الأولى لثورة يوليو 1952م ولذلك رفض الثوار دفنه فى القاهرة , فى ذلك الوقت ولكن عندما جاء عهد الرئيس السادات وافق على نقله وتم بالفعل دفنه بين أفراد أسرته فى الرفاعى بناء على رغبته الذى أعلنها قبل وفاته. ويوماً جاء إلى مصر محمد رضا بهلوى شاه إيران.. سنة 1980م بعد أن ضاقت به الدنيا بما رحبت, واستقبلته مصر رداً على موقف بطولى منة خلال حرب 1973م مع إسرائيل عندما أمر بتغيير خط سير ناقلة بترول إيرانية وأمر باتجاهها إلى مصر خلال الحرب , لإمداد مصر بالبترول اللازم لاستمرار العمليات الحربية وتذكرت له مصر موقفه.. وكان قدوافق السادات على دفنه فى القاهرة أيضا داخل مسجد الرفاعى فى حجرة خاصة ملاصقة للحجرة الملكية.. ويحتوى الجزء المخصص لمرقد الأسرة المالكة داخل المسجد على مجموعة رائعة من أجود أنواع الرخام التى تموج بدقة الصنع والذوق الرفيع.. وأيضاً غرفة مرقد شاه إيران التى تضم مجموعة خيالية من أجود أنواع الرخام العالمى .
فنون العمارة الإسلامية
وتذكر كتب التاريخ والتراث عندما تصف روائع مسجد الرفاعى أنه يتميز بثراء زخرفته, وفخامة بنائه.. كما أنه من أغنى المساجد فى العمارة الإسلامية قاطبة زخرفة ونقشاً. وللمسجد ثلاثة مداخل أجملها هو الباب الملكى الواقع فى الجهة الغربية المواجهة لمدرسة مسجد السلطان حسن وهو مدخل مرتفع به أعمدة شاهقة تعلوها قبة ذات مقرنصات..وجهات المسجد شاهقة الارتفاع تعلوها شبابيك من الجص المفرغ, أما المدخلان الآخران فيقعان فى الجهة القبلية ويعلو المسجد مئذنتان شديدتا الارتفاع بنيتا على الطراز المملوكى وبينهما قبة ضخمة ولمدخل المسجد ساحة تنتهى عند ضريح الشيخ على أبى شباك .. تنقسم هذه الساحة إلى جزءين الجزء الأيمن منها مخصص للصلاة أما الجزء الأيسر فهو للقبور الملكية. القسم المخصص للصلاة هو عبارة عن صالة كبيرة مساحتها نحو 1767متراً مربعاً وهى مربعة الشكل, تعلوها قبة ذات مقرنصات, تستند على أربع زوايا فى كل زاوية منها أربعة أعمدة رخامية لها تيجان مذهبة ومنقوشة.. سقف المسجد أيضا تحيطه النقوش البديعة المذهبة, حوائط المسجد وأركانه كلها من الرخام الملون والألبستر تزينه الزخارف العربية البديعة, يتوسط هذا الجزء المخصص للصلاة محراب كبير من الرخام الملون دقيق الصنع وإلى جانبه منبر خشبى مطعم بالأبانوس له مقرنصات ذهبية دقيقة فى باب المنبر وخوذته.. تتدلى فى المسجد الثريات النحاسية المزخرفة والمشكاوات الزجاجية المشغولة.. يتوسط هذه المساحة دكة المبلغ وهى مصنوعة من أفخر أنواع الرخام الأبيض الذى يحيطه ويزينه النحاس الأصفر وبجانب دكه المبلغ يوجد أيضاً كرسى المصحف الشريف المصنوع من الخشب المطعم بالأبانوس.. وفى نفس الجزء المخصص للصلاة توجد الحجرة التى بها ضريح الشيخ يحيى الأنصاري.
الزائرة الغامضة
ولان المسجد يضم رفات ملوك وسلاطين حكموا مصر فقد حرص الراصدون لحركة زيارات المقابر الملكية تسجيل الزائرين من الأسرة المالكة لأجدادهم.. ولكن ثمة زيارة غامضة تحدث عنها أكثر من راصد وكاتب تاريخى تقول إنه بعد وفاة الخديوى إسماعيل بسنوات عديدة, شوهد فى احدى الأمسيات شخصية نسائية فى نهاية سنوات عمرها, وعلى درجة كبيرة من الأناقة الأوروبية.. وبقايا من جمال أذبلته الأيام.. وكانت زيارتها لمرقد الخديوى إسماعيل ثم غادرت بعدها المسجد.. وغادرت أيضاً البلاد وقيل يوما إنها الإمبراطورة «أوجيني» التى استضافها الخديوى فى حفلات افتتاح قناة السويس وشيد من أجل عيونها دار للأوبرا.. وقصر تحول إلى فندق ماريوت الزمالك التاريخي.. ويسجل الراصدون أيضا زيارات الملك أحمد فؤاد لوالده الملك فاروق.. وكذلك الإمبراطورة فرح دينا لشاه ايران. وإذا قدر لك زيارة هذا المسجد العتيق, وشاهدت عظمة البناء, وعظمة مقابر ملوك مصر.. فإنك سوف تشهد فى نهاية القاعة الموصلة لأضرحة الملوك عمودا عملاقا علق عليه لوحة صغيرة كتبت عليها«الملك لله».
السرايا الصفرا
ويحكى التاريخ مزيدا من تفاصيل حياة خوشيار هانم وكيف كانت عزيزة على قلب ابنها خديو مصر - كما يشرح دكتور محمود عباس رئيس آثار العصر الحديث – فقد عانت من بعض الأمراض العصبية ومن اجلها بنى لها الخديو قصر الزعفران الشهير بعلاج حالات عصبية وبعد أن شفيت أمرت ببناء مركز لعلاج الأعصاب على مقربة من قصرها .. (مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية الآن) وبعد بناءهذا المركز تم دهانه باللون الأصفر .. كما أقامت مبنى على نيل حلوان حيث كانت تستشفى بمياه حلوان المعدنية (ركن فاروق الآن) واكراما للخدم المسئولين عن خدمتها فى هذا ( الركن) منح الخديو مساحات من الأراضى مجاورة لها ليقيم فيها الخدم وسميت عزبة الوالدة باشا. وأيضا تم انشاء طريق الكورنيش الى حلوان حتى تتردد خوشيار هانم على بيتها الصغير على نيل حلوان .