الحكايات المصرية والفرعونية فى باريس لا تنتهى بداية من الفنانين الذين يرتدون الملابس الفرعونية كوسيلة لجذب الانتباه فى أفخم شوارع واحياء باريس مثل الشانزليزيهوالأوبرا مروراً بالتماثيل الفرعونية مثل ابو الهول وغيره من الشخصيات الفرعونية المنتشرة فى ميادين باريس حتى أنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من العمارة الفرنسية والنافورات مثل تلك الموجودة فى ميدان (شاتليه) والتى يندفع الماء فيها من فم أبو الهول وبالطبع لا يمكن لأحد أن يصل باريس دون أن يسأل عن زرافة محمد على المحنطة فى أحد متاحف باريس والتى أهداها محمد على باشا لملك فرنسا لتكون حديث الفرنسيين على مدار عدة أعوام وأخيراً وليس أخراً مسلة رمسيس الثانى التى تقف فى شموخ فى ميدان الكونكورد منذ ما يزيد على 178 عاماً وعليها النقش الخالد (رمسيس قاهر كل الشعوب الأجنبية , المحارب الذي هزم الملايين من الخصوم والأعداء والذي خضع العالم كله لسلطانه ذو القوة التى لا تُقهر). ولرحلة المسلة من الاقصر الى ساحة ميدان الكونكورد بقلب باريس حكاية تاريخية وأسطورية رائعة هى محور معرض « رحلة المسلة « المقام فى المتحف القومى البحرى بباريس والذى ينتهى فى شهر يوليو المقبل ويعرض لرحلة المسلة من الاقصر حتى وصلت الى باريس بعد رحلة شاقة استغرقت ما يقرب من سبع سنوات ليتم زرعها فى الميدان الأفخم بالعاصمة الفرنسية ، و يقول الأثرى أحمد عبد الفتاح إنه بالطبع لم يكن الفرعون العظيم سيد البنائين رمسيس الثانى (1290-1224ق.م) يدور فى خلده وهو يعطى تعليماته لكبير مهندسى المملكة المصرية بتشييد إبرتين عظيمتين (مسلتين)لوضعهما فى مدخل معبد الأقصر عام 1280ق.م أن ينتهى المطاف بإحداهما فى فرنسا عام 1836 وهى من الجرانيت الوردي ويبلغ ارتفاعها 22.55 متر, ووزنها بحوالي 227 طنا ، والبداية كما تحكيها اللوحات الإرشادية والصور والأفلام فى المعرض هىكيف بدأ اكتشاف أوروبا والأوروبيين لمصر بعد حملة نابليون بونابرت عام 1789 وتوالى وصول المستكشفين والباحثين عن المغامرة وتجار الآثار حتى أصبحت مصر وأثارها حديث علية القوم والصالونات الباريسية وتزامن ذلك مع ظهور شامبليون ومحاولات فك رموز اللغة الهيروغليفية القديمة بالإضافة الى تولى محمد على حكم مصر ومحاولته بناء مصر الحديثة بالاستعانة بالأوروبيين وبخاصة الفرنسيون ومحاولته استمالتهم بالهدايا الدبلوماسية التى بدت أسطورية وغريبة فى حينها ، مرة بإهدائهم زرافة ومرة ثانية بإهدائهم مسلات ، فقد قرر الوالى المصرى إهداء فرنساوإنجلترا الدولتين الأقوى فى ذلك الوقت (إبرتين) مسلتين فرعونيتين ، ووقع اختيار الباشا على إحدى مسلتى الاسكندرية لتكون من نصيب فرنسا ولكن شامبليون الفرنسي الذى عشق مصر وحفظ كل قطعة من أثارها وقع فى غرام مسلة الاقصر التى كانت من المفترض أن تكون من نصيب إنجلترا فاستخدم الحيلة والمكر ليحول نظر إنجلترا عنها وليوجهها الى مسلة الكرنك باعتبارها الأكبر والأجمل وفى نفس الوقت استطاع إقناع محمد على بإهداء فرنسا مسلة الاقصر فكان له ما إراد ، بينما فشلت إنجلترا فى تحريك مسلة الكرنك لضخامتها فصرفت النظر عنها الى إحدى مسلات الاسكندرية .... وهكذا استطاع الشاب الفرنسي أن يحصل بالمكر على مبتغاه ثم بدأ الجزء الأصعب من الحكاية وهو كيفية فك المسلة من مكانها المزروعة فيه منذ آلاف السنين ونقلها مئات الأميال الى بلاد الفرنجة. ويقول جون مارسيل همبرت أحد مسئولى الترميم بالمتحف إن مهمة نقل المسلة أوكلت إلى وزارة البحرية الفرنسية واستغرقت 7 سنوات وجرت على 4 مراحل بدأت ببناء سفينة ضخمة لنقل المسلة من النيل الى البحر المتوسط وحتى نهر السين بإشراف مهندس البحرية جان باتيست أبولينير فتم بناء السفينة «الأقصر» وغادرت مدينة طولون في 1831 مع طاقم ضخم تعدى المائة رجل حتى وصلت إلى الاقصر بعد عدة أشهر، ثم بدأ العمل الاخطر وهو فك المسلة من قاعدتها وتحميلها دون تعريضها للكسر ، ولذلك تم حفر مجرى في الرمال للسفينة وتم رفع المسلة من مكانها وتغليفها بالخشب لحمايتها من التعرض للصدمات، كما قامت السلطات بهدم الكثير من المنازل التي كانت ملاصقة للمعبد لتوسيع الساحة لتسهيل وصول المسلة وضمان عدم تعرضها لسوء ، ثم استمرت العملية الصعبة بل الأسطورية باستخدام مواد بسيطة مثل الحبال والاخشاب وإن كان الامر لم يخل من مشاكل كادت تنتهى بكوارث لولا لطف الله وفى النهاية وبعد مرور اسابيع وصلت المسلة الى السفينة التى تم قطع مقدمتها بمنشار ضخم لكي تصلح لنقل المسلة. وقد إختار قائد الرحلة يوماً ذا قداسة وأهمية للأوروبيين هو يوم «عيد الميلاد « ليبدأ رحلته من الاقصر ولكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن فقد انخفض منسوب النيل مما عطل الرحلة ثم تلا ذلك إصابة عدد كبير من طاقم السفينة بمرض عضال أودى بحياة عدد منهم وفى النهاية وبمساعدة رجال البحرية المصرية وصلت المسلة إلى الإسكندرية بعد 3 أشهر وهناك كانت القاطرة البخارية «سفنكس» في انتظار السفينة لجرها إلى البحر المتوسط وحتى وصولها الى ميناء طولون ومنه الى ميناء شيربور ثم تلا ذلك الإبحار في نهر السين ، انتهاء الى استخدام كتيبة من الخيول الاصيلة للترحيب بوصول المسلة إلى جسر الكونكورد، وسط باريس، ثم رست السفينة في 23 ديسمبر 1833، أي بعد سنتين و9 أشهر من إبحارها من طولون. ويضيف جون مارسيل هامبرت انه بوصول المسلة كانت المشكلة الاكبر قد تم حلها وبقى جزء أخر لا يقل أهمية عما مضى هو أين ستوضع هذه المسلة العبقرية ، هدية الباشا المصرى ؟ وظهرت عدة اقتراحات أولها أن توضع فى ساحة الانفاليد بالقرب من قبر نابليون أو فى الباستيل لكن الملك لويس فيليب حسم الأمر و قرر أن تنصب في «الكونكورد» وهى الساحة الحمراء إو الملطخة بالدماء حيث شهدت إعدام الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت بالمقصلة بعد الثورة الفرنسية محاولاً محو هذه الذكرى و إبدالها بذكرى أخرى أكثر بهجة وهو ما تحقق بالفعل ، فقد تحول هذا الميدان الى أحد أهم المناطق السياحية والأثرية بباريس ولم يعد أحد يذكر حوادث الإعدام ولكن اقترن المكان بالمسلة المصرية والشغف بمصر الفرعونية . وبالفعل تحول يوم 25 أكتوبر 1836 يوم نصب المسلة الى مهرجان ضخم فقد تجمع أكثر من 200 ألف باريسي لمشاهدة الحدث الاسطورى وضجت الساحة بزوارها الذين وقفوا مشدوهين منذ الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً وحتى الثانية والنصف يتابعون عملية نصب المسلة التى تمت بنجاح بمساعدة 350 مهندسا وعاملا وفنيا وبإشراف المهندس الفرنسي (ليباس) ، هذا مع العلم أن عدد سكان العاصمة الفرنسية وقتها لم يكن يتجاوز المليون ، وقد شاركت إغلب طوائف الشعب فى هذا الاحتفال جنبا الى جنب مع السياسيين والعلماء والصحفيين و طبعت مئات الدعوات لعلية القوم للمشاركة وكانت فرصة ليظهر الباريسيون أفضل ما لديهم من ثياب وموضات، وصارت المسلة هى حديث المدينة الفرنسية لعدة أشهر حتى إنه لم يكن يسمح بزيارتها الا لمن يحوز تذاكر محجوزة مسبقاً . ويبدو أن حديث المسلة لم ولن يكون أخر الحكايات المصرية فى باريس ، وكأن قدر العالم كله أن تظل مصر شامخة عالية بمسلاتها وحكاياتها الفرعونية وقد جاء هذا المعرض فى وقت غاية فى الأهمية لمصر التى تعبر من عنق الزجاجة لتؤكد للعالم كله أنها عائدة بقوة وأنها ستظل دائماً وأبداً شامخة بتاريخها وحضارتها وأثارها وشعبها ... فقد شهدت قاعات المعرض الكثير من الأحاديث والحوارات الجانبية عن مصر الحديثة والثورة والرئيس السيسى وحمدين صباحى والانتخابات الرئاسية حتى أن أحد الزائرين قال لى «إن مصر بفراعنتها وملوكها ورؤسائها ومسلاتها وأثارها وثرواتها سوف تظل دائماً وأبداً قادرة على إبهار العالم».