كادت الأزمات العربية الراهنة تمحو القضية الفلسطينية الأم، لكن ما تقوم به إسرائيل الآن من عمليات عسكرية فى غزة، قد يعيد الروح إليها، ويجعلها تقترب من قلوبنا وعقولنا مرة أخري، وينسينا (مؤقتا) المرارات التى خلفتها تجاوزات حماس فى حق مصر خلال الفترة الماضية، ويجعلنا نستعيد الذكريات الأليمة لكل عدوان إسرائيلى مر أو استوطن فى كل أرض عربية. مهما تكن الحسابات التى فرضت على إسرائيل القيام بالعدوان المكثف على قطاع غزة، فهناك تقديرات متضاربة، بعضها وصف ما يجرى على أنه مغامرة محسوبة، الغرض منها استعادة زمام المبادرة وتأكيد اليد الطولى لها فى المنطقة، وأن حبال الصبر التى بدت عليها لن تستمر طويلا مع من تتصور أنهم تجرأوا معها عسكريا، ولابد من وقفة حتى لا تتمادى (من وجهة نظرها) المقاومة فى عملياتها، بعد أن كانت منضبطة تقريبا طوال العامين الماضيين. والبعض الآخر، يرى فى عملية «الجرف الصامد» حبل إنقاذ أو قبلة حياة لحركة حماس، التى تعرضت لهزات سياسية قوية، اضطرتها إلى الرضوخ لمطلب المصالحة، التى لفظتها دوما، مع حركة فتح، والقبول بعدد من إملاءات الرئيس الفلسطينى محمود عباس. والتجربة أثبتت أن ما تقوم به القوات الإسرائيلية فى غزة يزيد المقاومة صمودا، ويمنح حماس قدرة جديدة على مناطحة حركة فتح، وربما التفوق عليها. لذلك ترفض قيادات الحركة الإسلامية جميع إشارات التهدئة التى جاءت إليها عبر وسطاء، وتصر على استمرار الصواريخ التى تنطلق من القطاع، فقد وفرت لها اسرائيل فرصة ذهبية لتحتل الواجهة العربية، وتؤكد أنها لا تزال حركة مقاومة قبل أن تكون لها مطامع فى السلطة، أملا فى أن تتبدد الاتهامات التى وجهت لها خلال الفترة الماضية، بشأن التواطؤ مع الإخوان لتمرير أهداف وطموحات الأمريكان فى المنطقة، بل والعمل بما يخدم مصالح إسرائيل، فاتفاق التهدئة الشهير الذى وقعته مصر (أثناء حكم الإخوان) نيابة عن حماس مع إسرائيل قبل نحو عامين، تضمن بندا أشار إلى تخلى الحركة عن المقاومة. بعدها هدأت جبهة قطاع غزة بصورة غير مسبوقة. والآن انهار الإخوان تماما، وتوارى المشروع الأمريكي، وبقيت الانتقادات الخطيرة تلاحق حماس، ما أدى إلى حدوث فجوة سياسية مع مصر، واقتراب فتح من إحكام سيطرتها على الداخل الفلسطيني. الفرصة التى قدمتها إسرائيل، عن قصد أو بدونه، جعلت حماس تتشبث برفض وقف إطلاق النار، وتبالغ فى شروطها وترفع سقف توقعاتها، بما يتجاوز طموحاتها السابقة، سواء بالنسبة لأعداد الأسرى المطلوب الإفراج عنهم، أو شروط التهدئة الجديدة. ومع أن مصر تحركت فى البداية بحذر، وصل إلى حد وصف موقفها من جانب إسرائيليين و حمساويين ب «عدم الاكتراث»، إلا أن لدى قيادات الحركة ثقة فى انحياز مصر إلى صف القضية الفلسطينية، التى اعتبرها الرئيس عبد الفتاح السيسى فى خطاب التنصيب قضية محورية. بالتالى فاستمرار العدوان على غزة من المرجح أن يحدث ليونة فى الموقف المصرى المتصلب تجاه الحركة، التى لم تنكر أهميته فى دعم القضية الفلسطينية، ومهما بلغ الانشغال بالأوضاع الداخلية فلن يفضى إلى التخلى عن القضية، فى ظل الأهمية التاريخية التى تمثلها للأمن القومى المصري. كما أن التصعيد الاسرائيلي، ترى فيه بعض الدوائر، أول اختبار لنيات الرئيس السيسى الإقليمية، والتى تدرك حماس أنه سيتجاوز مراراته منها، ولن يفرط فى دعم القضية الأم بالنسبة للعرب. هنا مكمن الخطأ لدى قادة إسرائيل، والذى يعد ميزة عربية، فقد أدت الاعتداءات على غزة، ليس فقط فى عودة القضية الفلسطينية للواجهة، لكن فى احتمال عودة التوافق العربى حولها، وتجاوز الخلافات التى أدت إلى ما يشبه القطيعة بين كثير من الدول العربية، والانشغال بالهموم المحلية، التى تعصف بمجموعة من الدول الفاعلة فى العمل العربي. وتحويل الأنظار بعيدا عن «داعش» وأخواتها فى العراق وسوريا وليبيا، حيث تسببوا فى لفت الأنظار إليهم، ونسيان القضية الفلسطينية، التى كانت محورا أصيلا فى التحرك العربى المشترك، وفى نظر دوائر غربية كثيرة جرى تقديرها على أنها أم القضايا، وساد اعتقاد أن حلها يمكن أن يسهم فى تسوية قضايا متعددة فى المنطقة، وتعقيدها يضاعف من صعوبة أى تفاهمات سياسية فى الشرق الأوسط. لكن بدلا من أن يؤدى انتعاش التيار الإسلامى فى المنطقة إلى إجبار إسرائيل والغرب على التعامل مع القضية الفلسطينية بعين الاعتبار، قادتها التصرفات والتصورات العمياء إلى خانة التدهور بشكل لم يسبق له مثيل، وكادت تتلاشى فى زمن صعوده من على الخريطة السياسية الإقليمية، على الرغم من أن الخطاب النظرى لغالبية رموز هذا التيار يعلى من شأنها ويضعها فى مقدمة أولوياته. ومع هبوطه السياسى الملحوظ، بسبب أخطائه القاتلة، بدأت تلوح فى الأفق معالم عودة هذه القضية إلى مقدمة العمل العربي. وكأن العلاقة، كلما اتسع نفوذ التيار الاسلامى خبت القضية الفلسطينية، والعكس صحيح. وهو ما يكشف عمق المأزق داخل هذا التيار. لذلك تحاول حماس أن تستفيد من هدية التصعيد الذى أقدمت عليه إسرائيل على غزة، وتوظفه على مستويات مختلفة. على مستوى داخلي، للعودة إلى مناطحة ومناكفة الرئيس الفلسطينى أبو مازن، ومحاولة الإمساك بمفاصل أمور أخذت تفلت من بين يديها. وعلى مستوى عربي، من أجل أن تتصدر جدول أعمال الجامعة العربية، كما كانت لفترة طويلة، وتستعيد حماس درجة كبيرة من درجات التعاطف المعنوى وتستعيد الدعم المادى المفقود. وعلى مستوى مصري، حيث تكبدت الحركة خسائر فادحة جراء الغضب منها وعليها، رسميا وشعبيا. وسواء أرادت تل أبيب تلقين حماس درسا قاسيا أو تعمدت رفع أسهمها السياسية لمزيد من تفتيت الجبهة الفلسطينية. ففى الحالتين ستخرج الحركة رابحة من مغامرة غزة، شأن جميع النتائج التى تلت المواجهات العسكرية الأخيرة مع إسرائيل. ويبقى أن تظهر قدرا من الرشادة، وتتحاشى تكرار أخطائها السابقة، وتدرك أنها فصيل فلسطينى وليست كل الفصائل الفلسطينية. لمزيد من مقالات محمد ابوالفضل