من آنٍ إلى آخر تستيقظ مصر من نومها على حادث تحرش مروع، يجعلها تشعر لفترة طويلة بالعار، وتنبري بعده النخبة الثقافية والسياسية في تحليل الحادث وذرف الدموع الغزيرة على الضحية وعلى انهيار منظومة الأخلاق المصرية بعاداتها وتقاليدها العريقة وعلى طيبة ونخوة كنا نباهي بها الأمم. وكأننا لم نصمت طوال ربع القرن أو يزيد على محاصرة الثقافة وحبسها مكبلة في القاعات المكيفة المغلقة على أهلها من النخبة، ليكوروا ويدوروا ويكرروا أفكارهم فيها إلى ما لا نهاية بعيدًا عمّن يحتاجها في الكفور والقرى والنجوع والعشوائيات، وكأننا لم نصمت طوال ربع القرن أو يزيد على ازدراء المرأة وتهميشها وتسليعها في كل القطاعات الثقافية والسياسية والدينية، وكأننا لم نضحك عليها في أمثالنا الشعبية ونكاتنا ورواياتنا وأفلامنا لكي نستبعدها عن مواقع القيادة واتخاذ القرار والمشاركة في تشكيل أخلاق المجتمع من أجل تهذيب روحه، وكأننا لم نشبع ضحكًا ونحن نشاهد آلاف المرات مسرحية «مدرسة المشاغبين» على سبيل المثال لا الحصر وهي تقوض قيمة احترام الكبير والمرأة والتعليم، وكأننا لم نفسر ديننا الإسلامي الحنيف الذي كرم المرأة وأعزها كما يحلو لنا، كما يحلو لذكورة المجتمع الشائهة فينا، وكأننا لم نقصر في أداء دورنا الثقافي والتعليمي والإعلامي إزاء الشعب مما جعل طائفة منه تسيد ثقافتها فيصير البلطجي المتحرش بطل الشاشة المصرية، والراقصة حلم الكثير من الشبان، وبالتأكيد لن يمر وقت عرض الفيلم قبل القصاص من النخبة بالسخرية من علمائها ومثقفيها ونسائها. هنا نستدعي على الفور الأعمال الروائية الكبرى التي حذرت وأشارت ونبّهت وحاولت سبْر أعماق النفس البشرية لفهمها ومحاورتها والارتقاء بها. ومن ضمن هذه الأعمال رواية «العار» للكاتب «ج. م. كوتسي»، ترجمة الشاعر عبد المقصود عبد الكريم الصادرة عن سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب. و»ج. م. كوتسي» هو الكاتب الشهير الحائز على جائزة نوبل للآداب لعام 2003، وهو روائي وناقد وأكاديمي ومترجم من جنوب إفريقيا، ولد في كيب تاون بجنوب إفريقيا عام 1940، ومن أشهر أعماله الروائية: «في انتظار البرابرة» و»فو» و»عصر الحديد» و»قلب البلاد» و»سيد بطرسبورج» و»إليزابيث كستلو» و»الرجل البطىء» بالإضافة إلى سيرته الذاتية: «الصبا / الشباب». تدور أحداث رواية «العار» في الكيب تاون بجنوب إفريقيا، وبطلها «لوري» وهو من المهاجرين البيض، أستاذ جامعي في جامعة كيب للتقنية والتي كان اسمها جامعة كيب تاون، يُدرس مقررًا دراسيًّا عن الشعراء الرومانسيين بالإضافة إلى مهارات متقدمة في الاتصالات. يستدرج «لوري» البالغ من العمر اثنين وخمسين عامًا تلميذته التي تصغره بعشرين عامًا إلى بيته، ويقيم معها علاقة جنسية مستغلاً سلطته الجامعية، فيشن عليه أهل البلاد السود السكان الأصليون حربًا إعلامية ومجتمعية بعد أن تشكوه الفتاة، وتحاول هيئة التحقيق من زملائه أن يساعدوه حتى لا يُفصل من الجامعة فيشيرون إليه أن يعترف بخطئه.. فقط أن يعترف بالخطأ، ولكنه بصلافة جنسه الأبيض الذي استولى من قبل على مقدرات جنوب إفريقيا واغتصبها يرفض الاعتراف والاعتذار، وهو يستعيد حالة الفتاة، ويفكر كما تفكر الضباع إذا كان لها مخ تفكر به: (ليس اغتصابًا، ليس بالضبط، إلا أنه مرفوض، مرفوض حتى النخاع، كما لو أنها قررتْ أن تخمد، أن تموت في نفسها فترة، كالأرنب حين يقترب فكَّا الثعلب من عنقه، وكأن كل ما يُفعل بها يُفعل، إذا جاز التعبير، بعيدًا.) ص 43. وهكذا لا يجدون بدًّا من فصله، وبذلك تكون السلطة التنفيذية قد عاقبته، لكن السلطة المجتمعية بمنظومة قيمها وعاداتها وتقاليدها الإنسانية التي لا تتبدل منذ الأزل، والتي تم الاتفاق عليها منذ فجر التاريخ، والتي تُعرف الاغتصاب بالاغتصاب، والكذب بالكذب والاستعمار بالاستعمار.. هذه السلطة لم تسامحه ولم تقبل بفصله. يهرب الأستاذ الجامعي حاملاً عاره كاملاً ومطاردًا من الضمير المجتمعي، ليعيش مع ابنته «لوسي» في مزرعة بعيدة، ويحاول أن يفتح بابًا جديدًا للحياة فيرضى بالعمل في عيادة تمنح الكلاب المحتضرين نهاية سريعة بالحقن الرحيم كأنه يحاول أن يمحو عاره، ولكن العار يلاحقه ففي إحدى الأمسيات، وأمام عينيه يداهم بعض الأشقياء بيت ابنته ويسلبونه، ثم يغتصبونها دون أن يستطيع الدفاع عنها، وتحمل الابنة من مغتصبها الأسود، وترفض الإجهاض كما ترفض تحدي المزارعين السود المتواطئين مع المغتصب، وتلد طفلاً مزيجًا من الجنسين، كأن ابنته تنظر في عين جيل أبيها من الرعيل الأول المعتدي على حقوق السود وتقول له: هذا هو الإرث الذي أورثتموني إياه. كأنها هي وجيلها يكفرون عن عار جنسها الجماعي الأبيض كله وخطيئته التي لا يريد حتى الاعتراف بها بارتكابه اغتصاب الأرض والعرض وارتكاب التفرقة العنصرية لعقود في جنوب إفريقيا. وفي النهاية ما زلت لا أتصور كيف سيحتمل المتحرشون بفتاة ميدان التحرير عارهم الفادح هذا؟