الإنسان بالحق، وبغير الحق لا يكون.. تعلو قيمته حين ينصرُ الحق، دون نظر لغرض أو هوى.. يقذف بكلمة الحق الباطل، ولو احتمى بسلطان جائر، وينصف بها الحق، ولو كان لضعيف خامل.. يرفع الله بكلمة الحق أقواما، ويضع آخرين.. لذلك كان من عجيب أمر قوم إبراهيم، وهم في ضلالهم، أن قالوا له: "أَجِئْتَنَا بِ0لْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعِبِينَ".(الأنبياء:55). الحقيقة ضالة العقلاء، ومُبتغى الحكماء، وعدو الجهلاء، فطوبى لمن عاش بالحق.. للحق.. وجعل ديدنه البحث عن الحق، وكشف إساره، وإماطة لثامه..إن إظهار الحق فرض الوقت، وواجب الشرفاء. كل منا ينشد الحق، حتى المبطل يدافع عن باطله بإدعاء نسبته إلى الحق..والسؤال: هل هناك حقيقة واحدة أم أكثر من حقيقة؟ وإذا كان هناك أكثر من حقيقة هل يصح إدعاء أن ما عداها ليس حقيقة؟ الواقع أن الحقيقة لها وجه واحد، دون زيادة أو نقصان.. دميمة أو جميلة.. المهم أن تظهرها دون تشويه أو تحريف أو تجميل.. وبدون أن تكون على مقاس أهوائنا، وميولنا.. إذ لا ينبغي للحقيقة أن تكون أسيرة الرأي الواحد، والمعتقد الواحد.. بل يجب التعامل معها كما هي. قال علي بن أبي طالب: "ما شككت في الحق منذ رأيته، وما أكره الموت على الحق.. من طلب عزّا بباطل أورثه اللّه ذلاّ بحقّ.. وقل الحقّ ولو على نفسك". إن سعادة المرء في دنياه وأخراه متوقفة على إيمانه بالحق، وعمله بمقتضاه..قال تعالى: "وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ".(الأعراف: 181).. وقيل: إن الحق أصل في حقيقة الحياة يمكث، ويدوم.. والباطل زبد، وغثاء لا يلبث أن يزول. الحق اسم من أسماء الله، وقد وردت كلمة الحق بصيغ متنوعة في 287 موضعا من القرآن، وأقام سبحانه الكون على الحق، فقال: "وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ". (الأنعام: 73). وأعلمنا أنه لا شيء يمكن أن يدوم إلا بالحق، فقال: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ".(الحجر: 85). وقال: "وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ".(إسراء:105). وقال: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ".(التوبة: 33). وأعلَمَنا تعالى أن الحقَّ مرادُه فقال: "وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ".(الأنفال:7 و8). وأكد أنه لا شيء بعد الحق إلا الضلال، فقال: "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ".(يونس: 32). فلا أمن ولا استقرار لمن كذب بالحق، أو أعرض عنه.. قال تعالى: "بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ".(ق: 5)..فإذا تنكر الناس للحق، ولم يعملوا به، أو له، فهو الاضطراب، والفوضى.. فالحق عصمة كل شيء، قال تعالى: "فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ..فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ..فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ".(يونس: 32). إن سنن الله لا تجامل، ولا تحابي.. والحق هو المنتصر، مهما لقي من جفاء، وصاحب أهله من بلاء.. والباطل زاهق مهما أُعطي من إملاء، وأوتي أهله من عطاء.. فلا ينخدعن أهل الحق بما استدرج الله به أهل الباطل، وإمهاله لهم، ففي ذلك امتحان للنفوس، وتمييز للصفوف. وهنا قضية مهمة.. هل العبرة في الأخذ بالحق كثرة أهله؟ لقد دلت الآيات والأحايث على أن كثرة الأتباع ليست شرطا لقبول الإتباع.. قال ابن القيم في مدارج السالكين: "عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين". وقال ابن مسعود: "الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك". وجاء في الأثر: "الحق لا يُعرف بالكثرة، ولا بالرجال، ولكن بالأدلة، والآثار". فكن من أهل الحق، ودُر معه حيث دار.. فهو مفتاح الجنة والنار، وبه انقسم الخلائق إلى مؤمنين، وكفار، وسعداء وفُجار.. وهكذا كان من دعاء عمر: "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، واجعلنا للمتقين إماما". وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل. فاطر السماوات والأرض. عالم الغيب والشهادة. أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اخُتلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".(أخرجه مسلم).