رحلة شاقة وطويلة قطعها.إبليس حين قرر أن يتوب، انقطعت خلالها أنفاسه وخاب رجاؤه على أبواب البابا فى الفاتيكان وحاخامات اليهود فى إسرائيل وشيخ الأزهر فى مصر.. ثم صعد إلى السماء فنصحه جبريل أن يعود ويلتزم مهمته فى ألأرض. الرحلة تمت على ضفاف الخيال الإبداعى، شطح بها قلم توفيق الحكيم فى كتابه «أرنى الله» وأطلق دعوة صريحة للتأمل على سبيل التفكر والتفكه لا الاعتقاد والإيمان، حيث تساءل الحكيم: إلى أين يذهب إبليس إذا أراد أن يتوب،.. وكانت إجابته «رحلة خيالية» كتبها الحكيم على النحو التالى: ذهب إلى الفاتيكان، وأطرق السمع إلى تراتيل الكنائس «العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم» واستمع إلى قصائد مديح عيسى الذى جاء ليطهر الإنسانية من الآثام والأنانية، وذهب إلى قصر البابا، فسدد البابا إليه النظر وهو يتخفى فى صورة رجل، وقال له: أنت!.. نعم أنا.. وماذا تريد منى أيها اللعين؟ فقال أبليس إنى جئت إليك لأتوب، فلكل شيء نهاية..كان من المحتوم أن أهجر الإصرار والعناد وأن أعاف الشر وأتوق إلى طعم الخير.....، فاهتز بابا الفاتيكان وقال أنت أبليس تدخل الآن فى الدين؟ فقال إبليس ألم يجئ فى كلام المسيح «يكون فرح فى السماء بخاطئ واحد يتوب»، ووقع البابا فى حيرة وقال فى نفسه: «لا ..لا.. لا أستطيع هذا، إذا آمن إبليس ففيم إذن مجد الكنيسة، وما مصير الفاتيكان وتحفه ومخلفاته الدينية الكبرى، وما معنى يوم الحساب إذا محى الشر من الوجود، ثم رفع البابا رأسه وقال: اصغ الى يا...، لست أدرى بماذا أناديك؟حتى اسمك بعد توبتك سيثير إشكالا، إن الكنيسة ترفض طلبك، .. فخرج إبليس من الفاتيكان خائبا ويمم شطر حاخام اليهود فاستقبله الرئيس الإسرائيلي، واستمع إلى أمنيته وقال له: تريد أن تكون يهوديا؟ فرد أريد أن أصل إلى الله!، فتأمل الحاخام مليا إذا عفا الله عن إبليس ومحى الشر من الأرض ففيم إذن التمييز بين شعب وآخر؟ وبنو إسرائيل شعب الله المختار، لن يكون بعد اليوم مبرر لاختيارهم دون بقية الشعوب، ولاامتيازهم على بقية الأجناس حتى السيطرة المالية التى صارت إليهم منذ أجيال ستذهب عنهم! إيمان إبليس سيحطم صرح التفوق اليهودى، ويهدم المبرر لمجد بنى إسرائيل، ورفع الحاخام رأسه وقال ليس من عاداتنا التبشير..اذهب إلى دين آخر، وهكذا ألمح توفيق الحكيم إلى حرص الحاخامات على أن بقاء إبليس ضرورة لبقاء تهمتى العداء للسامية والتشكيك فى المحرقة، خرج إبليس مخفقا مرذولا، لكنه لم يقنط واتجه إلى شيخ الأزهر الذى استقبله، وأصغى إلى قوله، وما يسعى إليه.. ثم التفت إليه وقال له: إيمان الشيطان؟!.. عمل طيب.. ولكن!، لكن ماذا ؟ أليس من حق الناس أن يدخلوا فى دين الله أفواجا.. أليس من آيات الله فى كتابه الكريم:«فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا».. هانذا أسبح بحمده وأستغفره وأريد أن أدخل فى دينه خالصا مخلصا، وأكون نعم القدوة للمهتدين!، فتأمل شيخ الأزهر العواقب كما جاء فى قصة الحكيم، لو أسلم الشيطان الرجيم، فكيف يتلى القرآن؟ هل يمضى الناس فى قولهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولو تقرر ذلك لاستتبع الأمر إلغاء أكثر آيات القرآن، فإن لعن الشيطان والتحذير منه ورجسه ووسوسته لمما يشغل من كتاب الله قدرا عظيما، ورفع شيخ الأزهر رأسه ونظر إلى إبليس قائلا: هذا شيء فوق سلطتى، ولست الجهة التى تتجه إليها فى هذا الشأن، فقال إبليس: أنا أزحف على ركبتى معفرا رأسى الملكى بتراب الذل ملتمسا الهداية والمغفرة كما يلتمسها أحقر البشر وأضعف الآدميين.. فأطرق شيخ الأزهر لحظة وهرش لحيته، ثم قال : نية طيبة ولا ريب لكن .. اختصاصى هو إعلاء كلمة الإسلام والمحافظة على مجد الأزهر، وليس من اختصاصى أن أضع يدى فى يدك..فرد إبليس: لك الشكر..، وخرج واليأس ملء نفسه ومشى فى طرقات الأرض على غير هدى...ثم تجرأ وصعد إلى الأعالى يطلب التوبة ، فظهر له الملاك جبريل، ودار بينهما فى خيال توفيق الحكيم طبعا حوار .. قال له جبريل: جئت قبل الأوان، وليس لك أن تغير النظام الموضوع، والخير محظور عليك، وإياك أن تمد إليه يدا، عد إلى الأرض من حيث أتيت، فلا معنى للفضيلة بغير وجود الرذيلة، ولا للحق بغير الباطل، ولا للطيب بغير الخبيث ولا للنور بغير الظلام ... فوجودك ضرورى فى الأرض ما بقيت الأرض مهبطا لتلك الصفات العليا التى أسبغها الله على بنى الإنسان.... تحمل مصيرك وقم بواجبك وامض فى مهمتك ... ولا تثر، فقال :حبى لله وحده سر هذا التماسك فى بناء أرضه والتناسق فى قوانينه ونظمه! وترك السماء مذعنا وهبط الأرض مستسلما، ولكن زفرة مكتومة انطلقت من صدره تلفظ صرخة دامية معناها :إنى شهيد، إنى شهيد! انتهى مشوار السباحة فى خيال الروائى توفيق الحكيم .. وسواء فشلت محاولات توبة إبليس بسبب الرغبة فى «السلطة الدينية» أو استمرار ابتزاز العالم بمعاناة «شعب الله المختار» أو الإيمان ب «وظيفة» إعلاء «رسالة السلام» فى موجهة الشيطان ، يبقى إبليس هو العدو الأول لبنى آدم، منذ بداية تمرده على أمر الله ورفضه السجود لآدم الذى خلق من طين.. حتى أغواه وزوجه بالأكل من الشجرة وطردا من الجنة وعاشا فى الأرض فكانت هى الدنيا إلى يوم الدين! لمزيد من مقالات أنور عبد اللطيف