لأحمد شوقى بيت يناجى فيه القمر. يقول له فيه ما معناه. فأنا أروى البيت من ذاكرتى: يا بدر أنت ابن القرى/وأراك فى ليل المدائن إن بدوت غريباً.. وباستعارة بيت شوقى الجميل يمكننى القول: يا رمضان أنت ابن القري، وأراك فى ليل المدائن إن بدوت غريباً أو مخطوفاً. ما إن يهل رمضان على المسلمين فى قريتي. حتى يتحول إلى تحية بين المسلمين. يتقابل مسلمان يقول أحدهما للآخر: رمضان كريم. فيرد الثاني: الله أكرم. هذا ما سمعته بأذنى فى قريتي. ومازلت أذكر حب الناس للناس فى رمضان. طبعاً فى حياة قريتى لم نكن نعرف حكاية رؤيته هلال رمضان. بعض المعمرين من أهالى القرية كان يحكى عن مؤذن كان يصعد فوق مئذنة سيدى عبد الله النشابى ويرى بالعين المجردة الهلال. فتصوم الناس باعتبار أن الناس لا بد أن تصوم لرؤية. وإن كانت هذه القصة لم أتأكد منها كثيراً. لأنه فى حياة القرية كانت الناس تلتصق آذانها بالراديو. ثم تشتبك أعينها بالتليفزيون لاحقاً. لكى تعرف هل رأوا الهلال فى مصر أم الدنيا أم لا؟ ويصومون بناء ً على البيان الذى يصدره المفتي. وفى قريتى لا يعرفون اسم القاهرة. لكنهم يقولون عنها مصر. والتعبير يعكس حالة من الذكاء الشعبى الفطري. فالقاهرة مدينة تلخص أمة وتنوب عن وطن. ويمكن أن يشار إليها باسم الوطن وكأن من الصعب أن يدرك القروى أين تنتهى القاهرة لتبدأ مصر؟ وأين تبدأ مصر لتنتهى القاهرة؟ إنهما كيان واحد. وفى رمضان أذكر أن صاحب البيت الأول فى قريتى من النواحى الأربع: قبلى وبحرى وشرقى وغربي. إن وصل غريب لحظة الإقطار. بعد رفع أذان المغرب من فوق مئذنة سيدى عبد الله النشابي. «لم أعرف المدفع الذى يفطر عليه المسلمون إلا بعد الرحيل إلى القاهرة وتلك حكاية أخرى». هذا الغريب يصبح ضيفاً على أول بيت يصل إليه. يشارك أهله فى طعامهم أياً كان. وهذا يحدث فى كل القرى والكفور والنجوع. بصرف النظر عن الفقر والغني. فكرم الإنسان لا علاقة له بما يمتلكه أو ما لا يمتلكه. وطبلية رمضان أكرم طبلية على مدار أيام العام. لأن كرم رمضان فى أيام الطفولة الخضراء الجميلة لا حدود له. كان يخيل لى أن رمضان يأتى ومعه الخير الذى نراه وقت الإفطار أو السحور. يوزعه على البيوت بالعدل والمساواة. ولا يترك بيتاً إلا يتوقف أمامه يطرقه وينادى على سكانه. يختار منهم الأطفال. يقول أسماءهم. خصوصاً الأطفال الذكور. ولا يمضى إلا بعد أن يتسلم كل بيت هداياه الرمضانية من رمضان. كنت أتصور أن رمضان إنسان عملاق. قدماه فى الأرض وكتفاه تحملان سماء الله العالية. تبدأ عملقته. مع يومه الأول. ثم يتضاءل كلما ذهب يوم منه. العشرة أيام الأولى يكون فى اكتماله. والعشرة الثانية يكون حائراً بين البقاء والتفكير فى احتمال الرحيل. ولكن فى الأيام العشرة الأخيرة. تبدأ التواشيح ليلاً. تصل بين انتهاء صلاة التراويح والسحور. لأن رمضان يكون قد قرر «المرواح» أى المضي. ولكل أول آخر. ولكل بداية نهاية. هكذا دورة الحياة. منذ بدء الكون وحتى لحظة النهاية. يتصور الطفل وخيال الطفولة يصنع المعجزات التى تعلو فوق الواقع وتصبح أقوى من كل معطياته أن رمضان ذلك الكائن الفريد الذى يحيل ملل الحياة فى القرية لحيوية وحبور وسعادة. يمكن أن يموت. وأن يرحل. ولكن لا نشيعه. كما نفعل مع كل من يموت وسبحانه من له وحده الدوام. بل ننتظر قدومه بعد سنة من الآن. كنت أسمع أمى - يرحمها الله رحمة واسعة - تقول: إن العشرة أيام الأولى من رمضان مرق. والعشرة الثانية خلق. والعشرة الثالثة حلق. وتفسير هذه الفزورة التى لا حد لجمالها. ألم تقلها أمي؟ وما تقوله الأمهات يصبح تعويذة العمر حتى آخر لحظة. يعنى أن العشرة أيام الأولى نهتم فيها بالطعام وترمز له بكلمة مرق. والعشرة أيام الثانية تكون ملابس العيد الجديدة هى قضية الأسرة الأولى والأخيرة وتشير لها بكلمة خلق المأخوذة من كلمة خِلقة. تعنى القماش الذى يتم تفصيله ملابس. والعشرة أيام الأخيرة ينصرفون لصناعة كعك العيد. وتقول عنه حلق. لأن كعكة العيد على شكل دائرة تشير إلى الحلق الذى يتدلى من آذان النساء. وهكذا تتوزع الاهتمامات وتتنوع بين أيام رمضان ولياليه. أنظر حولى كلما جاء رمضان. وأتوقف أمام المظاهر التى أصبحت جزءاً من نسيج الشهر الكريم. أرى غلاء الأسعار فى الأسواق. الذى يسبق مجئ رمضان. أصبح من حقائق حياتنا المؤكدة. ليست هناك وسيلة لفهم آلية رفع هذه الأسعار. التى ربما تضاعفت فى رمضان. ربما يحلم الإنسان بأن تعود الأسعار إلى سابق أرقامها قبل رمضان. وهو مثل حلم إبليس بالجنة. درس أسواقنا الأول والأخير. إنه لا عودة عن زيادة فى سعر أى سلعة. مهما تكن المحاولات. وحتى إن عادت الأسعار إلى حالتها القديمة لا يصدق الناس ذلك. يتصورون أن كمية العبوات فى كل سلعة قلت عن ذى قبل. كنوع من التحايل. الأسعار هى الأرقام الوحيدة التى تصعد وتستمر فى الصعود دائماً وأبداً. لا تعرف حتى التوقف ولو من أجل التقاط الأنفاس.. مع أن رمضان كريم. لمزيد من مقالات يوسف القعيد