مع تولى المشير السيسى مقاليد السلطة فى مصر، باتت مسألة إعادة الاعتبار لهيبة الدولة فى مقدمة أولويات الحكم الجديد. لكن تحقيق هذا الهدف له شروط ومتطلبات عديدة، يتعين إنضاجها والعمل من أجل توفيرها. ومن المعروف أن بعض الباحثين استخدموا تعبير «الدولة الرخوة» لوصف حال الدولة المصرية منذ سبعينيات القرن العشرين. ومع مرور الوقت تعددت مظاهر رخاوة الدولة، وكان ذلك على حساب هيبتها. وعقب ثورة 25 يناير حدث تراجع مخيف فى قدرة أجهزة الدولة ومؤسساتها على القيام بوظائفها بقدر من الفاعلية والكفاءة، وغابت الدولة أو كادت تغيب عن تنظيم وضبط حركة المجتمع. ومن هنا أصبحت عودة الدولة حلماً يتطلع إليه المصريون، بعد أن عانوا طويلاً من تداعيات غيابها. وتتمثل أبرز مظاهر «الدولة الرخوة» فى مصر، في: عجز أجهزتها ومؤسساتها عن تطبيق القوانين المعمول بها بفاعلية وكفاءة، وضعف أو محدودية قدرتها على القيام بوظائفها الرئيسية وبخاصة فيما يتعلق بتوفير الأمن والأمان والخدمات العامة من تعليم وصحة وغيرها للمواطنين، فضلاً عن ضعف قدرتها على حماية المال العام، وتنفيذ الأحكام القضائية التى تصدرها المحاكم، وتأمين الحدود فى مواجهة عصابات التسلل والتهريب، يُضاف إلى كل ذلك وجود تنظيمات وجماعات مسلحة على أراضيها، وهذا الأمر، فى حال استمراره، من شأنه أن يفقدها واحدة من أهم خصائص الدولة، وهى احتكار حق الاستخدام المشروع للقوة. وقد شهدت مصر فى مرحلة مابعد ثورة 25 يناير حالة من الانفلات الأمنى غير المسبوق، وهو ما تعكسه بوضوح معدلات جرائم الخطف وطلب الفدية والاغتصاب والسطو المسلح. وعند الحديث عن إعادة الاعتبار لهيبة الدولة يتوجب القول: إن الدولة القوية المهابة ليست دولة تسلطية أو ظالمة أو قمعية، ولكنها دولة تتسم بسمات معروفة، منها: أنها دولة مؤسسات، بمعنى وجود مؤسسات قوية تؤدى وظائفها بكفاءة ضمن إطار دستورى وقانونى يحقق الشفافية والمساءلة وعدم التداخل فى الاختصاصات. كما أنها دولة تقوم على احترام مبدأ سيادة القانون، بحيث يطبق القانون على الجميع دون أى استثناءات.أضف إلى ذلك أنها دولة تلتزم فى جميع أنشطتها، وعلى مختلف المستويات بمعايير الشفافية والكفاءة والانجاز والفاعلية وليس الترضيات والمحسوبيات والرشاوى وغيرها من مظاهر الفساد. كما أنها دولة تتمتع باستقلالية عن شخص الحاكم، فالحاكم يمارس سلطة الدولة فى إطار الدستور والقانون، لكن لا يمتلك هذه السلطة، ولا تتماهى الدولة فى شخص الحاكم. وثمة عدة شروط ومتطلبات لإعادة هيبة الدولة فى مصر. أولها، الشروع فى عملية إصلاح جدية وسريعة لبعض المؤسسات المنوط بها إعادة الاعتبار لهيبة الدولة أكثر من غيرها، وهى تتمثل فى قطاع الأمن متمثلاً فى الشرطة والأجهزة الأمنية، والقضاء،وأجهزة الحكم المحلي، كل هذه المؤسسات تمثل مرتكزات رئيسية لاستعادة هيبة الدولة وترسيخها. وثانيها، التعامل بحسم مع ملف الأسلحة غير المرخصة المنتشرة فى مختلف محافظات الجمهورية، وبخاصة فى المحافظات الحدودية. وثالثها، إن هيبة القانون لا تكتمل إلا بالفاعلية فى تنفيذ القوانين والأحكام القضائية. فلا قيمة حقيقية لقانون لا يُطبق بفاعلية وكفاءة، فعدم إصدار قانون أفضل من إصداره والعجز عن تطبيقه كلياً أو تطبيقه بطريقة جزئية وانتقائية، لأن هذا من شأنه ليس فقط إسقاط هيبة القانون، بل إسقاط فكرة القانون ذاتها. كما أنه لا قيمة حقيقية لحكم قضائى لايجد طريقه إلى التنفيذ على الأقل من وجهة نظر صاحب الحق. ومن المؤكد أن شيوع هذه الظاهرة من شأنه ضرب مصداقية أحكام القضاء فى مقتل، ودفع الناس إلى أخذ حقوقهم بأيديهم بعيداً عن أجهزة الدولة ومؤسساتها. لكن الفاعلية فى تطبيق القوانين وتنفيذ الأحكام القضائية تتطلب إصلاح وتفعيل أدوار مختلف الأجهزة والمؤسسات المنوط بها ذلك. ورابعها، التصدى بحسم للفساد المعشش فى أجهزة الدولة ومؤسساتها، والذى تحول للأسف الشديد إلى مؤسسة ضخمة لها شبكاتها وآلياتها وثقافتها. وبدون ذلك يصعب الحديث عن استعادة هيبة الدولة وترسيخها. ولتحقيق هذا الهدف، فإن هناك حاجة ملحة لتفعيل أدوار الأجهزة والمؤسسات الرقابية، ومواصلة جهود معالجة الاختلالات فى هياكل الأجور والأسعار، وتطبيق القوانين على الجميع دون أى استثناءات. وخامسها، معالجة بعض المشكلات الاجتماعية الحادة التى تغذى ظواهر العنف الاجتماعى والبلطجة. وتأتى مشكلة أطفال الشوارع فى مقدمة هذه المشكلات. ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة عن عدد هؤلاء الأطفال، وهم يشكلون خزاناً بشرياً متجدداً للبلطجة. كما يتم استغلال بعض هؤلاء الأطفال من قبل جماعات وتنظيمات إرهابية. ولذلك فمن المهم وضع حد لهذه المشكلة التى باتت تمثل تحدياً كبيراً. وبالإضافة إلى كل ما سبق، فإن استعادة هيبة الدولة تتطلب فى جانب منها وضع وتنفيذ السياسات والخطط التى من شأنها توفير الحد الأدنى من السلع والخدمات العامة للمواطنين. كما تتطلب فى جانب آخر معالجة الاختلالات التى أصابت منظومة القيم فى مصر وبخاصة فيما يتعلق بقيم الحفاظ على المال العام، واحترام القانون، واحترام المرأة، والتكافل الاجتماعى وغيرها. وهذا يحتاج إلى ثورة ثقافية تشمل مختلف فئات المجتمع المصري. وفى جميع الحالات، فإن السياسات والإجراءات المرتبطة باستعادة هيبة الدولة وترسيخها يجب أن تتسم بالاستمرارية، ولاتكون مجرد إجراءات مؤقتة تعود بعدها ريمة لعادتها القديمة كما يقولون. فالاستمرارية فى هذا السياق سوف ترسخ قيم وممارسات جديدة بشكل تدريجي، بحيث تصبح مع مرور الوقت هى القاعدة، وما عدها استثناء غير مقبول يلفظه المجتمع. لمزيد من مقالات د. حسنين توفيق إبراهيم