وقف القدر للشباب بالمرصاد ونالت منه الأيام وجرعته كئوسا من المرارة والآلم فقد طفولته حتي حياته وشبابه وتلفع بالصبر وكلما غرست السنون حنجرا باردا في صدوره اقتلعه بشهامة الرجال وسار في الدروب الوعرة محفوفا بالفقر وقلة الحيلة وداخله آمال تنوء عن حملها الجبال الراسيات وأحلام محفوفة ببريق المستقبل. وكلما تعثرت خطاه لاحت له صورة أمه الراحلة في الأفق وهي ترتبت علي كتفه وهو صغير بين أحضانها وتطلب منه ان يتلفع بشيم الرجال من الصبر والتحمل ولكن الأيام أقسمت أن تلقنه درسا في التعاسة والإحباط حتي ظهر له الوجه السيء لها بأنه لا فرار من الجحيم، وأن الشقاء صار وشما مرسوما علي جبينه حتي كتب له القدر تلك النهاية المفجعة. بداية القصة المأساوية عندما عاش الشاب الذي كان يعمل عاملا بسيطا في إحدي قري الصعيد برفقة زوجته وابنه، في كنف والده المسن، حياة هادئة، حتي حلم بأن يخلع عباءة الفقر ويتوجه إلي القاهرة تاركا والده في الصعيد، بعد أن اختطف القدر والدته منذ نعومه أظافره ورفض والده الزواج ليتفرغ لتربيته. إلا أن الشاب ضاق من الفقر الذي أحاط منزل أبيه باسياخ من حديد وشد الرحال إلي القاهرة للعمل وجلب المال والعيش في أضواء المدينة واصطحب زوجته ونجله الطفل (4 سنوات) إلي القاهرة ظنا منهما أن بها سهولة العيش والعمل فيها بعيدا عن الصعيد ومن ثم تحسين دخله بعيدا عن والده محدود الدخل الذي كان يتقاضي معاشا لا يتجاوز 700 جنيه يعيش عليه أربعة أفراد، فعمل هو وزوجته في القاهرة، وعندما بدأ يتكسب مالا سرق الزمن أحلامه فأدمن المخدرات وابتعد عن عمله وساءت حالته الصحية، فندم كثيرا وقرر هو وزوجته الرجوع إلي بني سويف والعيش فيها مرة أخري، ووقع خبر ادمانه المخدرات علي أبيه كالصاعقة وباع منزله لينفق ثمنه علي علاج ابنه الوحيد من الإدمان، ولكن القدر تربص له بالمرصاد، عندما أصيب بمرض الصرع بعد علاجه من الإدمان، فقرر مرة أخري العودة إلي القاهرة مواصلا بحثه وسعيه عن الرزق، حتي فاجأه حظه العثر بقيام مجهولين باختطاف طفله الصغير، وبعدها اصيب بحالة هياج عصبي وظل يجري في شوارع مصر باحثا بنفسه عن طفله المختطف. ووصل به الأمر بعد عنائه في البحث عن ابنه المختطف دون جدوي، أنه كان يري كل طفل في الشارع وكأنه طفله الضائع منه، فيحتضنه ويصرخ ويبكي ممسكا به مرددا: »ابني ابني«، فيصرخ الطفل الصغير ويصرخ أهله خشية من هذا الرجل الذي يظنون أنه فقد عقله، فيذكرنا هذا المشهد بحال والده المسن الذي تركه وحيدا في الصعيد. لم يمهله القدر طويلا وفي ذات مرة وأثناء بحثه عن طفله المختطف، وأثناء توهمه بأن أحد الأطفال هو ابنه الضائع، فقامت أسرته بالتعدي عليه كي يترك طفلهم وأصروا علي اصطحاب هذا الرجل »المعتوه« من وجهة نظرهم إلي أقرب قسم شرطة لتسليمه فيه كي لا يعترض طريق أحد مرة أخري، ففزع كثيرا من هذا الأمر ففر هاربا من قبضتهم وأثناء هروبه اصطدم باتوبيس نقل عام بحي السيدة زينب بالقاهرة حتي لقي مصرعه في الحال، وأمرت النيابة برئاسة أحمد الأبرق بدفن جثته. وحضر والد الشاب من بني سويف إلي القاهرة فور علمه بنبأ وفاة ابنه لاستلام جثته ودفنه في مقابرهم، وتعهد الأب المسن أمام محمد عنان مدير نيابة السيدة زينب بتكفل ورعاية زوجة ابنه حتي أن يتوفاه الله، لكن القدر لعب لعبته مرة أخري في حياة تلك الأسرة البسيطة، فبعد يومين فقط من وفاة الشاب فوجئوا بعودة الحفيد المختطف من قبل مجهولين، أمام المنزل الذي كانوا يقطنون فيه بالقاهرة بحي السيدة زينب دون معرفة من الخاطف ولا أسباب اختطاف طفل ينتمي إلي أسرة فقيرة. أمر المستشار طارق أبو زيد المحامي العام الأول لنيابات جنوبالقاهرة بتسليم الصغير لوالدته ودفن جثة الزوج البائس، وأسدل الستار علي حكاية مأساوية بطلها الفقر وأفرادها تعساء.