هنا اليونان.. من لا يعرفنى خاسر.. ومن يعرفنى ولم يفكر فىّ جاهل.. ومن يفكر فى ولم يحبنى فلا يعرف معنى الحب.. ومن يحبنى ولم يتيم بى فإنه لن يعرف معنى النشوة فى حياته.. ومن تُيم بى وأصابه سهم كيوبيد أصبحت أسير تحت جلده.. يتنفسنى فى هوائه.. وأزوره فى أحلامه فأتحكم فى دقات قلبه... هكذا شعرت منذ اليوم الأول الذى قررت فيه السفر إلى بلاد الأساطير الإغريقية التى طالما فتننى سحرها بما تحمله من نسمات البحر.. دفعنى لها شعراؤها الملهمون: «هوميروس» مؤلف الملحمتين الإغريقيتين الإلياذة والأوديسة.. مؤرخوها العظام: هيرودوت وزينوفون.. فلاسفتها الذين علموا البشرية البحث وراء الأسرار: سقراط وأفلاطون وأرسطو.. قائمة طويلة من أصحاب الفكر والأدب والفلسفة والفن أهدتهم بلاد الإغريق للعالم ليفتحوا خزائن الأسرار وكنوز الأرض.. ليس هذا فحسب بل حتى أساطيرهم بما حملته من ظواهر تحرك الذهن بحكايات «زائفة» نجدهم وقد صوروا آلهتهم على أشكالها أهلها وألوانهم. ترى من أى محطة أبدأ رحلتى فى بلاد الإغريق؟!..
بما أننى أحببت آلهة الإغريق الأسطورية المتجسدة فى أهلها.. إذن فلتكن الرحلة قريبة منهم فكان الاختيار مدينة «سالونيك» أو باليونانية «ثيسالونيكى».. استعددت لتلك الرحلة بشكل مختلف، ملأت حقيبتى بمجموعة كتب عن أساطير الحب والجمال عند اليونان، طقس «سالونيك» المميز كما عايشته ساعدنى على الإحساس بتلك الحقبة التاريخية غير المعلومة.. ولكن لماذا سالونيك تحديدا؟!.. ببساطة تلك المدينة الرائعة التى يحتضنها البحر المتوسط تقع على رأس خليج سالونيك، وهو الجزء الشمالى الغربى من بحر إيجة، أحد أفرع البحر المتوسط، لم أشعر بالغربة فأنا ابنة المتوسط فكان استمتاعى بمياهها الرائقة وشمسها الدافئة.. لأفتح النافذة مع نسمات الفجر، أشعر بخيوط الشمس تستأذن آلهة جبل الأوليمبوس فى الشروق.. وفي الغروب تأتمر الشمس للمرور من خلف الجبل لتذهب في سبات عميق.. وتترك المساحة واسعة لأورانوس إله السماء ليحتضن القمر فى قلبه.. إنها لوحة فنية تبعث على الأمل من «جبل الآلهة» ثانى أكبر قمة جبلية فى منطقة البلقان ويزوره الآلاف سنويا من كل أنحاء العالم. مع خطوط النهار الأولى يبدأ اليوم، حيث يستيقظ اليونانيون فى الصباح الباكر على أنغام الموسيقى يمارسون رياضتهم: المشى أو الجرى أو ركوب دراجة عادية أو بخارية على «البارليا» الموجودة بطول شاطئ المتوسط. كانت المدينة لحسن حظى تحتفل بعيد الربيع من خلال معرض الزهور والنباتات الذى يجوب كل أرجائها، ويعرض فيه كل أنواع وألوان وأشكال الورود والنباتات.. وبهذا المعرض تكتشف كيف يعشق اليونانيون الورود ويعتبرونها جزءا من ثقافتهم وحياتهم، فلا يمكنك أن ترى منزلا أو بيتا إلا وكانت الزهور والنباتات والأشجار تغطى مساحة كبيرة فيه.. فى هذا المعرض تكتشف جزءا آخر من حياتهم ليس فقط حبهم للنباتات والزهور واقتناؤهم الحيوانات خاصة الكلاب، بل أيضا تكتشف أنهم شعب اجتماعى جدا فترى كل الموجودين فى المعرض من أبناء المنطقة الواحدة يعرفون بعضهم بعضًا.. فيتكلمون عن أحوالهم وحياتهم ولا مانع من بعض السياسة والآراء الاقتصادية، فاليونانيون كالمصريين يتحدثون كثيرا ويشغل الكلام حيزا كبيرا من حياتهم فيكون ناشطا سياسيا وقت الكلام عن السياسة، وخبيرا اقتصاديا وقت الحديث فى الاقتصاد، ولا مانع من استخدام بعض الألفاظ الخارجة لتلطيف حدة الحوار والخروج به لحيز الفكاهة والسخرية من الأوضاع التى تمر بها البلاد. الفراعنة والإغريق لا يشتركان فقط فى الثرثرة، بل تجد أيضا بينهما سمات كثيرة متشابهة، منها أنه من الطبيعى أن تجد بين كل مقهى ومقهى.. مقهى على شرف مشروب الفرابيه الشهير (نوع من القهوة القوية التى تشتهر بها اليونان)، كثيرا ما يتحدثون بأنهم سلالة الإله زيوس.. أحفاد الإغريق.. أصحاب حيلة «حصان طروادة» وقاهرو الفرس.. يؤمنون بأن الشعوب صاحبة الحضارة لن تغيب عنهم الشمس أبدا، قد تغرب ولكنها من المؤكد ستشرق لهم من جديد.. ترى الشحاذين على الطريقة المصرية منهم من يشحذ بورد أو أطفال يحملون مناديل أو شاب يجوب وسائل المواصلات يرفع أوراقا ويتظاهر بالبكاء فتدرك أنه يشرح حالته الصحية ويشحذ بطريقة (مترو حلوان المرج).. وطبعا شحاذون على الطريقة الأوروبية عزف موسيقى على نسمات شاطئ البحر وبعضهم من اليونانيين والبعض الآخر من صربيا ودول البلقان، ويضع كل عازف علم بلده بجانبه معلنا عن هويته.. وهناك طريقة أخرى يقوم بها الأفارقة وهى ادعاء أنهم من جزيرة جامايكا ويضعون فى يد الفتيات أساور بحجة أنها تجلب الحظ مقابل يورو ونصف اليورو لكل إسورة.. خاصة أن جلب الحظ وقراءة الطالع حرفة موجودة بقوة يحترفها بعض الأفارقة والروس فنجدهم يقرأون الكف والفنجان بادعاء جلب الحظ.. والطريف أيضا «قراءة التارو» (أوراق مثل الكوتشينة) التى يحترفها رجل كندى.. (حتى الكنديون يشحذون فى اليونان) وإذا كان الأفارقة والروس يقرأون ب2 أو3 يورو، فالأمريكى يقرأه ب7 يورو وأكثر. حين تركب معهم مواصلاتهم العامة تكتشف الزحام الكبير وكأنك فى أتوبيس نقل عام مصرى بالعربى الفصيح، خاصة أن تلك المواصلات تجعلك تلتقى بكثير من المصريين والسودانيين الذين يتبادلون الحوارات فيما بينهم بصوت مرتفع، ويبدأون فى الكلام معك بل ويشاركون جيرانهم اليونانيين الحوار فيترجمون لهم فحوى الحديث.. لاحظت فى هؤلاء تحديدا متابعتهم الجيدة للأخبار وأحوال العباد فى بلادهم، وفى تلك اللحظة شعرت بأننى فعلا فى أتوبيس نقل عام يجوب وسط القاهرة العامرة بشدة حرارتها وأحاديث أهلها.. لذا كثيرا ما شعرت معهم بأن كل الأطفال هم أطفال بلادى بنفس الشقاوة وحبهم للسائح وحديثهم الطويل معهم بلغة إنجليزية ركيكة. بل ومعاكستهم له فى بعض الأحيان.. وكل الشباب يبتسمون ويقدمون يد المساعدة ويشرحون كم أن بلادهم جميلة.. والعجائز لا يكلون عن الضحك والثرثرة الطويلة حول تعانق حضارتى الفراعنة والإغريق وبعض أساطير الحب المشتركة فيما بينهم.. الحمد لله تم إنقاذ رأسى أو على حد تعبير الأسطورة اليونانية.. أنقذنى هرقل من بطش سيد الألب كما فعل ببرومثيوس، حينما رأيت ذلك المبنى الأثرى شديد الروعة المنحوتة واجهته بالرخام والمعروف باسم «أرك جالريوس» الذى يقع فى أشهر شوارع المدينة «إجناتيا»، ويعود إلى القرن الرابع وشيده الإمبراطور الرومانى «جالريوس» كرمز للإمبراطورية. كانت زيارتى الأولى ل«ليفكوس بيرجوس» أو «البرج الأبيض» وهو يعد الواجهة البحرية للمدينة ويعتبر رمزا للكفاح والنضال الوطنى للشعب اليونانى وطالما روى بدماء أبنائه على يد الغزاة الذين جاءوا من كل بقاع الأرض طمعا فى موقع المدينة المميز وخيراتها.. لذا كان يسمى «البرج الأحمر» نسبة إلى الدماء التى حررت المدينة من العثمانيين.. وعادوا ليطلقوا عليه البرج الأبيض كرمز للمدينة الباسلة.. وقفت عند مدخل البرج لألقى السلام على تمثال الإسكندر الأكبر، فأذن لى بالدخول لأجوب طوابقه أشاهد أفلاما تعرض نضال شعب سالونيك.. أسمع بعض النغمات السالونيكية القديمة.. وأخرج بعدها فى الهواء الطلق لأرى المدينة بأكملها من أعلى طابق.. لأرسل قبلاتى من بعيد لقمة «جبل أوليمبوس أو الأوليمب» عله يرضى عنى ويحل لى لغز «فينوس» إلهة الجمال وحبها «لآريس» إله الحرب.. وربما يكون كرمه أكثر فيستكمل حكاية لعنته ل«كاساندرا» أميرة طروادة وقد أغمض عينى فى أحضان هذا الجبل وهو يقص علىّ كيف رق قلب «أخيل» القوى وعرف معنى الحب حينما رأى «بيرسيس». انتهت زيارة «ليفكوس بيرجوس» فى ساعتين ولا تزال شمس سالونيك وجوها البديع يدفعنى نحو الكثير من الزيارات.. وبما أننى فى بلدة تنعم بالكثير من الآثار المتلألئة فى شوارعها فكانت وجهتى لمتحف سالونيك الأركيولوجى الجديد.. المبهر بطريقة عرض المقتنيات الأثرية ومسار الزيارة المرسوم بدقة ليسهل على الزائر مشاهدة كل ما يحتويه المتحف من مقتنيات المدينة الخاصة، وبعض مقتنيات مملكة مقدونيا القديمة التى تعكس ثراءها كاستخدام المذهبات فى الحلى والتاج الملكى فى تلك الفترة.. وبعد 5 دقائق تقريبا سيرا على الأقدام وجدت نفسى أمام متحف الثقافة البيزنظى، حيث مرحلة جديدة وفترة تاريخية مختلفة، تلك الحضارة التى تعتبر امتدادا للحضارة الوثنية الرومانية.. يضم المتحف مجموعة كبيرة من تصاميم وتزايين الكنائس البيزنطية فى القرون الأولى وأهم اللوحات والمصنوعات اليدوية والملابس والمجوهرات فى هذا العصر.. ليس هناك أفضل من أن تختم زيارتك فى نهار سالونيك بمشاهدة الروتوندا أقدم وأكثر بناء بقى محافظاً على هيئته والذى بنى فى القرن الثالث الميلادى ثم تحول إلى مسجد أثناء الفترة العثمانية. ليلة قمرية جميلة كنت فيها، توجهت إلى «ميدان أرستوتيلوس» يتوسطه تمثال ضخم ورائع للفيلسوف أرسطو، ويعتبر هذا الميدان من أهم معالم المدينة، حيث تقام فيه بعض الألعاب الترفيهية منها «البيانولا»، «الألعاب النارية»، «الألعاب البهلوانية» للتسلية.. الحياة الليلية بسالونيك أيضا طويلة كنهارها حيث تعج المطاعم والمقاهى والبارات بالبشر، وكأن كل الناس على وجه البسيطة هنا بسالونيك، يأكلون لحوم الأغنام التى تشتهر بها اليونان.. ويشربون البيرة أو مشروب الأوزو المحلى أو النبيذ اليونانى الشهير الذى يقدم، إما فى كئوس فخارية أو نحاسية كتقليد خاص.. هذه السهرة اليونانية لا تكتمل إلا على نغمات المزيكا التراثية من خلال مجموعة من العازفين لا يتجاوز عددهم ثلاثة يعزفون أروع الألحان الفلكلورية القديمة على آلة البزق على شدو أحد المطربين.. هذا النوع من الموسيقى يعتبر من أشهر المعالم التى تميز السهرات فى «لالازيكا» التى انتهت زيارتى لها تحت لوحة مكتوب عليها شارع مصر.