لايختلف اثنان علي أن مصر تمر بأزمة معقدة تتاشبك خيوطها يوما بعد يوم, وكلما قطع المجتمع شوطا نحو الخروج منها تحول الحل نفسه إلي جزء منها, فالكل يخشي وجود المجلس العسكري الذي كان يوما ما جزءا مهما من الحل والإعلان الدستوري الذي وافقت عليه غالبية الشعب يتحول بين ليلة وضحاها إلي أم المشاكل, تحوم حوله الشكوك ثم يتم إلحاقه بعشرات المواد الأخري بأسلوب غير منطقي يزيد الأمور تعقيدا, والانتخابات التشريعية النزيهة والحرة التي يشهد لها العالم بالشفافية أضحت أحد العناوين الرئيسية للأزمة, وهكذا في دائرة لا متناهية غير معلوم نقطة بدايتها أو نهايتها وهو ما ضاعف من تصلب الشرايين وتحجر المواقف وفقدان القدرة علي التفاهم واختلاط المفاهيم وغياب العقل وسيادة حالة الفوضي وعدم الثقة, وفي كثير من الحالات فقدان القدرة علي الاستجابة في الوقت المناسب لدرجة الاخلال بالمسئولية, فاستراتيجية المجلس العسكري في التعامل مع صرخة الميدان مع ما تحمله من دلالات تعيد للأذهان مشهد يناير1102 في مواجهة مبارك ونظامه لاتزال دون الحدث, وكأن استراتيجية الصمت هي الأمثل, لكن الرأي العام المستنفر لايجدي معه الصمت, فهناك قضايا جوهرية في حاجة لمن يفك ألغازها, ورسائل الطمأنة فقدت مغزاها. هذا المشهد المتشائم لايخفف من وطأته سوي نبض ميدان التحرير رمز الثورة المصرية وحيوية الشباب والقدرة علي الاستمرار والعطاء, وتواصل الأجيال ونبذ الخلافات الفرعية من أجل الغايات الكلية. أما الصوت الجارف في الميدان فقد توحد تقريبا حول ثلاثة مطالب أهمها التسليم الفوري للسلطة. والمحاكمات الثورية لرموز النظام البائد, وتطهير النظام وإزالته ليسهل البناء من جديد لا مجرد إزالة رأسه أو أركانه, هذه المطالب تأكد لدي القاصي والداني أنها السبيل لتحقيق مطالب الثورة التي لم يدرك منها سوي النذر القليل, هذا المشهد الثوري الذي تجدد في الخامس والعشرين من يناير يقول إن شرعية الميدان تسبق شرعية البرلمان فهي التي أتت به, وبدون الميدان لم يكن للبرلمان وجود. قوة الميدان تعلو قوة البرلمان لأن الشهيد كان في الميدان ولم يكن في البرلمان, سلطة الميدان هي الأصل ومنها جاء الفرع, فالميدان باق والبرلمان متغير, هكذا يجب أن يفهم البرلمان رئيسا وأعضاء.. دماء الشهداء معلقة في رقابكم.. كرامة المصري المسلوبة تناديكم. وحرياته المستباحة تلوذ بكم, والعدالة المجني عليها تحتمي بكم, ومجتمع النصف في المائة ينفد صبره, والميدان لن يرحمكم إن قصرتم, فالأمر الآن بيده ولستم سوي وكلاء عنه, فوضكم لإدارة الأزمة فهل تدركون المسئولية.. في ظني المسئولية أكبر منكم جميعا بعدما شهدنا الخلاف حول رئاسة اللجان البرلمانية, وكأن في داخل كل منكم ديكتاتور يريد أن يتحكم, كنت أظن أن الظرف الثوري سوف يحول دون التكالب علي المناصب, كنت أظن أن قوة الفكرة والحجة سوف يكون لها تأثير السحر في التشريع والرقابة, بغض النظر عن موقع العضو في البرلمان سواء كان رئيسا أو عضوا, لايهم الموقع, الأهم العطاء والقدرة والخبرة والكفاءة لا المنصب, هل نسيتم أن دماء الشهداء لاتزال تنزف وأنين الأمهات والثكالي والأرامل لم يسكت بعد, أنتم جميعا تتنافسون علي لجنة هنا وموقع هناك. الأزمة كما يبدو لي ذات أبعاد ثلاثة: أولها الانقلاب علي الديمقراطية من قبل البعض الذين لم يأت بهم صندوق الانتخابات, فإما أن يكون لهم موقع في البرلمان وإما أن يكون البرلمان غير شرعي, وكأن الشرعية مرتبطة بوجودهم تدور حولهم وترتبط بهم, ولم يكن هذا ليحدث لو كانت الديمقراطية قد تمكنت في المجتمع, لكننا للأسف برغم عراقة حضارتنا فإننا مازلنا في سنة أولي ديمقراطية, والبعد الثاني مرتبط بأزمة الثقة في المجلس العسكري لأدائه السيئ, فقد حاول واجتهد لكنه لم يوفق لأسباب كامنة في بنيته وخلفيته, وفقدانه الخبرة, وتخوفه من مستقبل غير آمن بعد رحيله, ورغبته في أن تكون له الغلبة في دستور مصر المستقبل, ولم يكن تنافس القوي السياسية المتصارعة علي السلطة معينا له بقدر ما كانت أداة للارتباك والتشتت والحيرة, ما جعله يمارس دور الرقيب أو الوسيط أو المتفرج غير قادر علي الحسم حتي ولو كان في الاتجاه الصحيح. أما البعد الأهم للأزمة فهو تراجع أحوال المصريين يوما بعد يوم, فالأموال منهوبة لا أثر لها, ودماء الشهداء لم يثأر لها أحد, والمحاكمات برغم جديتها فإنها مرهونة بالوثائق والأدلة والبراهين التي أخفاها أعداء الثورة, ولايمكن معها صدور حكم يرتقي لمستوي الجريمة, فالثورة في أمس الحاجة لإعادة بنية النظام القانوني والقضائي حتي يكتب لها الاكتمال وإلا سوف تنتكس. الخروج من الأزمة في ظني لايكمن في التسليم الفوري للسلطة برغم أهميته لأنه ربما يتحول إلي أزمة علي غرار الحلول السابقة, وربما كان الخروج منها في استراتيجية ذات خمسة أبعاد يعلنها ويلتزم بها المجلس حتي03 يونيو تضمن ألا يكون له موقع متميز في الدستور الجديد يربو علي ما كان يتمتع به في دستور1791, وأن تخضع ميزانيته للرقابة من جانب لجنة الدفاع والأمن القومي, وأن يتم انتخاب رئيس الجمهورية قبل وضع الدستور لنضمن دستورا مدنيا بمنأي عن نفوذه, وأن يخضع للمساءلة السياسية والقانونية إن لزم الأمر وألا يحاكم المدنيون أمام القضاء العسكري, علي هذا النحو يصبح بقاء المجلس في السلطة أداة لانتقال ديمقراطي ونزيه للسلطة لصالح الثورة لا علي حسابها, هذه الأبعاد الخمسة ليست إلا رؤية ربما تزيل الضباب وتدير الأزمة للخروج منها. المزيد من مقالات د.بسيونى حمادة