يُروي أن رجلاً ذهب ليشتري خادمًا فقال له البائع إنه نمام، فاشتراه ظنًا منه أن النميمة أمر هين. فقال هذا الخادم ذت يوم لزوجة الرجل: إن زوجك لا يحبك، ويريد أن يتزوج عليك، وقد عرفت من أمره كذا وكذا، أفتريدين أن يعطف عليك؟ قالت: نعم، قال: خذي موسى فاحلقي بها شعرات من باطن لحيته ثم بخريه بها، وجاء إلى الرجل فقال: لله إن امرأتك تصادق غيرك وستقتلك لكي تتمكن من الزواج منه، فإذا أردت أن تتأكد فتظاهر بالنوم، فتناوم الرجل بالفعل، وفوجيء بزوجته تمسك موسى، لتحلق الشعر من أسفل لحيته، فأيقن أنها ستذبحه، فقام إليها فقتلها، فقتله أولياؤها قصاصًا منه. هكذا تفعل النميمة، والوشاية، والتحريش بين الزوج وزوجه، والأخ وأخيه، والقريب وقريبه، من جفوة، وسوء ظن، وفتنة عظيمة.. فكم من علاقات قُطعت، وبُيوت هُدمت، وحروب وقعت، ومقاتل نشأت؛ بسبب تحريش شياطين الجن والإنس؟ هنا يعني التحريش: إثارة العداوات، والحض المستمر على الكراهية، وإلقاء البغضاء بين الناس، وتأليب نفوسهم بعضها على بعض، بحيل خبيثة، وأساليب ماكرة، وشبهات لا أساس لها من الصحة، مما يؤدي إلى اشتعال الشجار والشقاق، وحدوث التنافر، وذهاب الحب والألفة والمودة فيما بينهم. إن التحريش هو الصناعة الأولى للشيطان، والبضاعة الرائجة له، ولشياطين الإنس، إذ تقتل الحب، وتبث الفتنة، وتنشر الحقد، وتفرق بين الأخ وأخيه، والزوج وزوجه، والخِل وخليله، وربما تقود إلى طريق الذم، والهدم، وتنتهي بالقتل والدم. وقد نهى الإسلام عن التحريش.. وفي حديث أخرجه الإمام مسلم أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن الشيطان يئس من أن يغويهم بالشرك، ولم يبق له سوى أن يحرش بينهم.. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان قد أيس -وفي رواية: يئس- أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم". وروى مسلم أيضًا عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ نِعْمَ أَنْتَ".. قَالَ الْأَعْمَشُ: أُرَاهُ قَالَ فَيَلْتَزِمُهُ..أي: يقربه؛ لأنه بلغ الغاية، بهدم الأسر، والبيوت. ولا تقف خطورة التحريش عند التفريق بين الزوج وزوجه.. فهذا النبي يوسف عليه السلام يقول لإخوته: "وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي".(يوسف:100).. يقول لهم هذا برغم تآمرهم عليه، وتسببهم في بيعه عبداً، وسجنه على يد امرأة العزيز ظُلمًا. وقد يصل التحريش إلى حد تأليب الرعية بعضهم على بعض تجاه حاكم عادل أو صالح.. كما حدث في قُتل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وكان مصدر تحريش الناس عليه هو عبد الله بن سبأ. وكما حدث مع إبن تيمية الذي قاده حسد بعض العلماء له إلى السجن، حتى مات فيه، فكان يقول: "حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة". بل نهى الإسلام عن التحريش بين الحيوانات والبهائم، وتوعد صانع التحرش أو الواشي أو النمام؛ بعدم دخول الجنة.. ففي الحديث الصحيح: "لا يدخل الجنة نمام". لكن: عندما نلقي نظرة على واقعنا، ونحلل الأزمة التي تعاني منها أمتنا؛ سنجد أن حياتها تكاد تقوم على التحريش الدائم، بسبب الحسد.. سواء في الحكم والإدارة، وعلاقات القرابة والجيرة ومواقع العلم والعمل.. وسواء بين الأفراد والجماعات، أو بين الأحزاب والقوى السياسية.. إلخ. ويتولى صناعة التحريش العُظمى -هذه- إعلاميون مارقون، ودعاة فاسدون، وسياسيون مُغرضون، بينما ساحات عملهم: برامج حوارية، وصحف سيارة، وترتيبات أُقيمت على تحريش لا يتوقف، وإيقاع دائم بين فئات الناس، وإثارة ظنون وشبهات، ومظالم بغير حصر. والأمر هكذا، يجب على كل عاقل؛ عندما تأيته وشاية في شخص أو فئة، أن يقول.. كما قال سليمان عليه السلام للهدهد: "سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ". (النمل: 27). [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد