كيف جر إعلام الاخوان الشعبين المصرى والسعودى بعيدا عن زيارة ضخمة ذات ابعاد استراتيجية عميقة لخادم الحرميين الشريفين لمصر الى حديث القبلة التى وضعها رئيسنا على جبهة خادم الحرمين ؟ كيف جرنا إعلام الاخوان الى أسئلة من نوع وهل يليق ان يذهب الرئيس الى الطائرة وبروتوكول اللقاء؟ انها التفاهة وذهنية التفاهة التى تمثل فى رأيى اكبر الاخطار التى تواجه العلاقات الاستراتيجية التاريخية بين المملكة العربية السعودية ومصر وتواجه تطورها النوعى الذى يرسمه الرئيس السيسى والملك عبدالله الآن فى مرحلة دقيقة فى حالة سيولة فى الأمن الإقليمي. الدولتان مسئولتان عن هذا الانحراف فى العلاقات من الحديث عن الجاد فيها الى الحديث عن الجانبى والتافه احيانا لتصدر المشهد ويترك القضايا الكبرى وراءه فى خلفية المشهد. فى هذا المقال وربما مقالات اخرى وفى حوار مع اخرين ممن يهتمون بهذه العلاقة ويحرصون على استمرار زخمها سأحاول ان انظر لمشروع ثقافى اكبر يكسو عظام هذه العلاقة لحما يحميها من هزات كبرى وصغرى وخصوصا الصغرى. الأسبوع الفائت فى لندن قتلت فتاة سعودية فى جريمة عنصرية ولم يذهب السعوديون الى السفارة البريطانية يطالبون بالقصاص. السعوديون يعرفون ان هذا امر عارض فى علاقتهم بدولة بريطانيا. اما نحن فعندما تمت محاكمة المحامى الذى أدين بتهريب المخدرات الى السعودية قلب البعض الدنيا ولم يقعدها. لنفترض ان المحامى مظلوم، أليس من المتوقع فى وجود مليونى مصرى على أراضى المملكة ان تحدث خمس قضايا او عشر من هذا النوع كل يوم فى إطار ما يسمى فى الإحصاء بهامش الخطأ الذى يصل الى نسبة خمسة فى المائة. اى ان فى كل مائة مصرى فى المملكة وارد ان يكون واحد او خمسة سيئون. كيف لأزمة بسيطة مثل أزمة المحامى والمخدرات ان تتحول الى حدث شعبى؟ أيضاً هنا التفاهة هى اكبر خطر على علاقات استراتيجية مهمة. وهنا انا لا أقول ان سجن مواطن او وقوع ظلم هو امر تافه ولكننى أقول ان تغليب الامر الصغير على الأمور الكبرى يكشف عن تفاهة العقل الاستراتيجى بيننا كدولتين وشعبين. العلاقات المصرية السعودية تحتاج الى تفكير ناضج وإدارة ذكية لمطبات حدثت وستحدث بين البلدين بعضها صغير وقد يكون بعضها كبير ولكن بناء مؤسسات قادرة على إدارة الأزمات الصغرى والكبرى باتت ضرورة بين الدولتين اذا أرادتا بناء شراكة استراتيجية ارى انها ضرورة عربية الآن وليست رفاهية. قبل الأمس كتبت مقالا فى صحيفة الشرق الاوسط بعنوان «قبلة لحماة القبلة» اى ان قبلة الرئيس السيسى على جبهة الملك عبدالله لم تكن لشخص الملك بل لشعب المملكة وللدولة التى تحمى قبلة المسلمين وطبعا الى خادم الحرمين الذى يشرفه كما فى لقبه بأن يكون خادم قبلة المسلمين. قلت أيضاً ان عبقرية القبلة كانت فى عفويتهاوبساطتها الأخاذة. كانت قبلة لأهل القبلة (بضم حرف القاف فى الاولى وكسرها فى الثانية)، قبلة من الشعب المصرى لحماة القبلة فى المملكة العربية السعودية. رأس الملك عبدالله التى قبلها رئيس مصر هى رمزية لرأس الشعب السعودى الشقيق فى أبهى صورها متمثلة فى هذا الملك العربى الجسور والطيب فى ذات الوقت. من كان فى مصر يوم هبوط طائرة خادم الحرمين الشريفين فى القاهرة كان سيحس بتلك الطاقة الإيجابية التى سرت فى جسد الوطن المصرى ومواطنيه. كل المصريين على اختلاف توجهاتهم أحسوا برسالة الملك. الرسالة التى كهربت الجسد المصرى هى ان الملك عبدالله بن عبدالعزيز ابى ألا يكون هو السباق بالزيارة ليرد بوضوح لا لبس فيه ان قامة مصر عالية وان مصر هى قائد الأمة العربية. الملك عبدالله كان يرد على حملات أرادت النيل من مصر والتى تحدثت بسلبية عن ان زيارة الرئيس المصرى للسعودية كأول زيارة له خارج الوطن تجعل قراره مرهونا للمملكة. الملك عبدالله هو الذى أتى الى مصر ولم ينتظر مجيء الرئيس المصرى الى المملكة. فهل وضحت الرسالة ؟ هذه اللفتة الملكية الكريمة هى التى جعلت الرئيس عبدالفتاح السيسى يقبل رأس الملك بعفوية وبكهرباء الطاقة الإيجابية التى سرت فى جسده كما سرت فى جسد جموع المصريين، فمن تابع لغة الجسد ونغمة الصوت ومفردات اللغة عند الرئيس عبدالفتاح السيسى من زيارته الى «فتاة التحرير» وطريقة اعتذاره لها الى تقبيل رأس الملك يدرك ان الرئيس السيسى يمثل المتوسط الحسابى للأخلاق المصرية فى أبهى صورها. احترام الكبير والحنو على الصغير.. هذا هو السيسى. وهذا تحليل لا تملق. فقد أكون اكثر قدرة فى الحكم على ما يقوله جلالة الملك لأننى التقيته وجها لوجه اكثر من مرة ولأكثر من ساعة فى كل مرة، ولكننى لم التق الرئيس السيسي.رسالة الملك عبدالله والتى استبقت زيارة وزير الخارجية الأمريكى الى القاهرة هى نوع من الحرفية السياسية التى أرادت ان ترسل رسالة لأمريكا قبل وصول جون كيرى الى المنطقة كما أرسلت السعودية ذات الرسالة من قبل عندما أرسلت وزير خارجيتها سعود الفيصل الى العواصمالغربية وقال من باريس ان من يقول بان ما حدث فى 3 يوليو هو انقلاب فليعتبر نفسه ليس صديقا للسعودية. الرسالة يومها وصلت ومساعدة السعودية فى حماية ثورة 30 يونيو دبلوماسيا. فهل وصلت الرسالة للمتخلفين عندنا؟ رسالة الملك عبدالله أيضاً كانت ان مؤتمر الأصدقاء والأشقاء لدعم ليس كمؤتمر المانحين لسوريا وإنما هو دعم للدولة الرائدة فى الإقليم لكى تتبوأ مكانتها الطبيعة وكلى ثقة ان تلك كانت مشاعر الملك عبدالله تجاه مصر والتى سمعتها من جلالته فى اكثر من موقف. هل كان كمصريين فى حاجة الى تلك الوقفة الملكية فى مطار القاهرة؟ الإجابة البسيطة هى نعم ونعم جدا اذ كانت فى الزيارة تهنئة وتضميد جراح لوطن مر بمحنة ولذلك كانت القبلة لحماة القبلة بالنسبة لنا واجبة وأراد رئيسنا ان تصل الرسالة للجميع بأن علاقة مصر بالمملكة بها شق عاطفى قوى تترجم حرفا معنى التقاء الشقيق بشقيقه. القبلة غيرت المصريين وغيرت السعوديين فى لحظتها وأحيت فى الشعبين وشائج القربى والمحبة. ما بين مصر والمملكة كبير وكثير وأرى ان حورانا فى مصر حول المملكة يحتاج الى نضج يليق بحجم العلاقات المصرية السعودية والمصالح المشتركة. العقل المصرى بصيغته الحالية -وبالعقل اعنى الثقافة المصرية السائدة- يحتاج الى نقد حقيقى خصوصا فى مسألة العلاقات المصرية السعودية اذ لا يرتقى حورانا الوطنى بأهمية تلك العلاقات الاساسية التى لايمكن الاستغناء عنها. نقول كثيراً ان لدينا أزمة مع الغرب فى التواصل لكن الحقيقة أيضاً هى انه لدينا أزمة حقيقية فى التواصل مع الأشقاء فى العالم العربى لابد ان توقف عندها. وعندما اقترحت وحدة للتواصل الاستراتيجى بيننا وبين بقية العالم على صفحات هذه الجريدة، أضيف اليها اليوم انه لابد من وجود وحدة فرعية للتواصل الاستراتيجى مع العالم العربى. علينا ان ننقى الشوائب من العلاقات المصرية السعودية التى تنحرف بالقضايا الى توافه الأمور وتغلف الجوهر. مهم ان يدرك المصريون معنى الخيار الذى وضعت أمامه المملكة بعد 30 يونيو 2013. فعندما خيرت السعودية بين مصر والغرب اختارت مصر.وقدوم الملك عبدالله الى مطار القاهرة هو تأكيد على هذا الاختيار. اننى من هنا أدعو المثقفين المصريين ومعهم السعوديون الذين يفهمون فى شأن العلاقات المصرية السعودية وهم قلة حتى الآن الى فتح حوار جاد يرقى الى ان يكون نواة مشروع ثقافى وتواصل استراتيجى بين الدولتين يكسو عظام هذه العلاقة لحما يحميها من الهزات القادمة ويجنبها الانحراف الى توافه الأمور التى يريدها لها إعلام الاخوان. لمزيد من مقالات د.مامون فندى