ماذا يمكن أن نقول لو وقع نظرنا فجأة على مثل هذا الخبر: «تقيم فرنسا مهرجانا لغناء الموال فى باريس وتدعو إليه الفرق المصرية، وسوف تشاركهم « صفوة من فرق الموال الفرنسية « ! طبعا سنموت من الضحك لأن كل شيء انقلب فجأة : فرنسا أصبحت تقيم الملتقيات لفننا نحن «الموال» ثم تدعو فرقنا إليها ضيفا مشاركا مع أننا – نحن – أصحاب الموال ومبدعيه !
تصوروا ان القاهرة فعلت ذلك بأوروبا وقلبت كل شيء بالفعل ! إذ راحت تقيم المهرجانات – واحدا وراء الآخر – لموسيقى الجاز الأوروبى الأمريكى وتدعو إليه فرق الجاز الأوروبية ضيفا مشاركا ! نعم .. أقاموا مهرجانا فى مارس 2011 بساقية الصاوى وفعلوها فى مارس 2012 وزادوها مهرجانا فى « الأزهر بارك « من هذا العام 2014 وبمشاركة «قال إيه» فرق الجاز المصرية مثل «فرقة ريف باند، خماسى رامى عطا لله، فرقة بركشن شو، ثلاثى عمرو صلاح للجاز، فريق افتكاسات».. وهؤلاء المصريون المشاركون يحملون «قال» اسم «صفوة من فرق الجاز المصرية» ! ويقفون إلى جانب الفرق الأوروبية المستضافة ويا للعجب! يعنى الفرق الأوروبية صاحبة الجاز تأتى إلى مصر لتعرض الجاز «جازهم» ويقف المصريون إلى جانبهم لا لعرض الموال المصرى أو الموشح وإنما الجاز أيضا ! ويا سلام سلم على منافسة الأجانب فى خبزهم وصناعتهم الروحية ! ولو أن «صفوة من رجال الغناء الفرنسي» سعت حقا لمعرفة الموال المصرى وإنشاده فلن تصل براعتهم بحال من الأحوال حد إقامة مهرجانا للموال، ولن يتعدى سعيهم ومهما كان حدود تلمس الموال وفهم الخطوط العامة له ! من ذلك الذى يظن ان الفن كالسخان ينتقل من موطنه متى شئنا ويتم تركيبه فى أى بلد آخر ! فرنسا لا تعتقد ذلك فهى لم تعقد مهرجانا واحدا لغناء الطقطوقة المصرية أو الدور أو القصيد أو التواشيح! وكذلك إيطاليا، ألمانيا، إنجلترا، النمسا وأسبانيا (الجميع)، بل إنهم لم يعقدوا مرة واحدة فى تاريخهم مهرجانا لفن أجنبى ! فهم يعرفون إن الفن لا يهاجر ولا يمكن استيراده ! تلك ليست دعوة لمقاطعة فنون الشعوب الأخرى .. فنحن نذهب بأقدامنا لبيتهوفن (العملاق الألماني) وننصت .. بل لابد من ذلك .. لموسيقى باخ وموتسارت .. لابد ، أما إنتاج هذا الفن محليا فأمر آخر تماما .. أن تعرف موسيقى ألمانيا وتفهمها لا يعنى انك تستطيع إعادة إنتاجها، فما تستطيع إعادة إنتاجه هو المنتج المادى كالسخان أو السيارة وليس المنتج الروحي. يبدو إن السؤال الرئيسى هنا هو : « ما الذى ينتقل من الفن وما الذى لا ينتقل ؟ « لننظر فى الواقع العملى وماذا حدث فيه .. ماذا فعلت مصر مثلا عندما راحت تنقل عنهم فن السينما بعد ظهوره فى فرنسا (ديسمبر 1895) على يد الأخوين لوميير، وكيف نقلته الإسكندرية ثم القاهرة فى يناير 1896 ؟ لقد أخذت مصر آنذاك الوسيلة «كاميرا السينما» وليس النتيجة ! أخذت الكاميرا والوسائل «وسائل التحميض أو الطباعة مثلا» .. وربما أخذت أدوات العرض كوسائل الإنارة أو الكشافات أو ستائر الإحاطة بجسم الشاشة .. ولم تأخذ الفيلم المصور ذاته لإعادة إنتاجه ! لم تأخذ مصر فيلما فرنسيا من أى نوع لتعيد تصويره وترجمته للعربية، ولم تنظر إلى الصور (أول الصور السينمائية) المأخوذة لباريس آنذاك بهدف إنشاء مثيل مصرى لها، وإنما صورت الخديوى المصرى وبعض الميادين المحلية داخل مصر كبداية لامتهان السينما، أى أن مصر أخذت الفكرة وليس التطبيق ... الوسيلة كالكاميرا وليس النتيجة.. المبدأ وليس المعالجة. آما موسيقى الجاز «المنقولة» مصريا فأخذت التطبيق الموسيقى بعينه أى العزف نفسه والنغم الصادر (نغم السلالم الأوروبية وليس المقامات العربية) وأدواته (الآلات الأوروبية كالجيتار والدرامز) أى أخذت النتيجة من عزف وتأليف وليس الفكرة ! وذلك خطأ جسيم ! عندما نقلت مصر عنهم المسرح المعاصر استعارت الفكرة (فكرة تقمص شخصية ما والتعبير عنها بحركة الجسم وكلمات اللغة) واستعارت الوسائل .. كالخشبة وبناء المسرح وليس الموضوع أو القصة المعينة .. استعارت الفكرة التأسيسية وليس التطبيق العملى .. المقدمات وليس النتيجة. وإن قامت مصر بتقديم وتمثيل بعض التراجم القصصية المسرحية الأوروبية فذلك كان من قبيل نقل الفكرة اطلاعا على تجارب الآخرين بينما كانت البداية الحقيقية للمسرح المصرى هى قصص الحياة المصرية ذاتها، وقد كانت قصص وقضايا الحياة المصرية الموضوع الرئيسى لأولى المسرحيات ظهورا (مسرحيات يعقوب صنوع فى 1870 ومنها : زوجة الأب / البربرى / الحشاشين / الضرتان / آنسة على الموضة) أن تعرف مسرح بريخت لا يعنى أنك تستطيع إعادة إنتاجه فأنت لا تستطيع استنساخ روح الإنسان .. أن تعرف « تكعيبية « بيكاسو أو « انطباعية « فان جوخ لا يعنى أنك تستطيع تمصيرها فالفن لا ينشأ فى بلد من البلاد ما لم يكن مفتولا من نسيج هذا البلد وحياته الخاصة. والجاز نسجته حياة الزنوج وعذاب استرقاقهم أربعة قرون (بدأ استحضارهم فى القرن الخامس عشر وتبلور الجاز فى التاسع عشر) .. نسجته حياتهم ومجاورتهم موسيقى البيض فى نفس الوقت، آما جاز مصر المنقول فقد أخذ التطبيق الموسيقى الأمريكى (تقليد العزف والنغم الصادر) وأخذ الأدوات الأجنبية (آلات الجاز الأمريكية والأوربية كالجيتار والدرامز) أى أخذ النتيجة وليس الفكرة .. وذلك هو السبب فى ابتعاد المصريين عنه ! وكان من الممكن أن يأخذ الفنان المصرى من الجاز فكرة امتزاج فنون أكثر من بيئة ، ولتكن بيئات محلية .. كامتزاج فن الصعيد بفن البدو المصريين ، أو بفن الريف المصرى ! كيف نشأ الجاز ؟ الجاز هو موسيقى الزنوج العبيد التى اختلطت بموسيقى الأوروبيين، وقد غرست أولى بذور هذا المزيج الموسيقى عند انتزاع الزنوج من إفريقيا قصرا فى مطلع القرن الخامس عشر وبيعهم عبيدا فى أوروبا ثم فى الولاياتالمتحدة. ومنذ هذا الزمن المبكر، وعندما تلاقت موسيقى الأفارقة بموسيقى الأوروبيين، بدأت خيوط الجاز تتجمع وتنعقد بينها العقد الكثيرة، بدأت تشتبك وتتقاطع موسيقى حضارات مختلفة فى عملية متصلة امتدت قرونا .. وقد اقترن تبلور الجاز (الهجين الإفريقى الأوربى الأمريكي) فى سنوات 1830 - 1850 فى الولاياتالمتحدة بصدور مرسوم إلغاء السخرة 1863 . أى أن الجاز هو اختمار موسيقى ظل يعتمل وينضج أربعة قرون ما بين شعوب تنتمى لثلاثة قارات (أفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية) . كيف يمكن لمصر – بعد ذلك – أن تأخذ نتيجة الاختمار وهى لم تعرف ذلك الاختمار ولم تخض فيه ! كيف يمكن لبلد أن يأخذ نتيجة تاريخ غيره ! المعضلة هى : «إن الفن نتيجة نهائية لمجمل حياة الإنسان ، وإن كل مجتمع يضع فنا خاصا طالما له حياة خاصة» ولأن كل صغيرة وكبيرة فى الفن تنتمى لبيئة ومجتمع محدد، ولأن الفن هكذا «بيئي» لم تتمكن الولاياتالمتحدة من وضع موسيقى سيمفونية حقيقية على غرار ألمانيا (بلد بيتهوفن)، ولم تتمكن ألمانيا من وضع موسيقى جاز حقيقية على غرار الولاياتالمتحدة! أما مصر فتمد يدها للجاز الأمريكى لتقطف النتيجة «الجاهزة» تاركة وراءها هنا وهناك الأمل الوحيد لتطورها «الطقطوقة والموال والنشيد ، الأغنية الشعبية والسيرة الشعبية وأغانى العمل الشعبية «.. تترك الداخل من أجل الخارج .. وتعقد لخروجها المهرجانات وتحتفل !