منذ عدة شهور، قررت الامتناع قدر الإمكان عن البرامج السياسية فى التليفزيون المصرى والمصطلح عليها ب«التوك شو» فاقتصرت علاقتى بالتليفزيون أو كادت على فيلم مصرى قديم أحيانا أو فيلم أجنبى حسب الحالة ربما باستثناء وحيد هو برنامج «البرنامج» وقد اجتمعت عوامل الإخاء والتكامل العربى لإعفائى وغيرى من ذلك الواجب التليفزيونى المتبقي. غير انه لا فرار. الميديا الاجتماعية واليوتيوب تأتيك بأسباب الدمار المعنوى الشامل عبر الشاشة الصغيرة لللاب توب، ولا مهرب منها، بحكم المواطنة، وبحكم المهنة،وربما بحكم فضول قهرى لا يرد. الأخبار والبرامج الإخبارية رغم ندرتها البالغة تشكل بدورها استثناء لموقف المقاطعة التليفزيونية الانتقائية من قبلي. وهو ما قادنى الأسبوع الماضى لمقهى من تلك المقاهى الأنيقة التى انتشرت فى مدننا كالنار فى الهشيم خلال السنوات الماضية، مسلح باللاب-توب وقهوة أمريكانو، لمتابعة حفل تنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسى وخطابه فى تلك المناسبة الجلل. ولكن يبدو انه قد بات من المستحيل مشاهدة أو متابعة حدث كبير أو صغير كما هو، فالفرضية الأولى عند صانعى الإعلام فى مصر هو أننا شعب من المتخلفين ذهنيا، غير مؤهلين لقراءة حدث ما بأنفسنا، ولاستخدام عقولنا نحن فى استخلاص مغزى الحدث وآثاره المتوقعة. نحتاج لملقنين وملخصين وميسرين وهتيفة ومشجعين يرضعوننا المعنى والمغزى ويقودوننا تصفيقا وهتافا، أو حسب الحالة، صريخا وإدانة. وهكذا كتب علينا أن نتابع حفل التنصيب وخطاب الرئيس الجديد من خلال برنامج حواري، يتحدث فيه المذيع (كما تعودنا) بأكثر مما يتحدث ضيفه، وكان الأخير، فى حالة القناة التى اختارها العاملون بالمقهى للاطلال على الحفل، مساعدا سابقا لوزير الداخلية. قد يسأل سائل: لماذا مساعد سابق لوزير الداخلية للتعليق على خطاب تنصيب الرئيس الجديد؟ وهل يضمر مثل هذا الاختيار توقعا أو تمنيا بأن تكون دولة السيسى دولة شرطية؟ لا أملك إجابة بطبيعة الحال، خاصة وكنت بعد انتهاء الرئيس من خطابه قد أقفلت أذنى عن التعليق التليفزيونى على الخطاب وألتفت لما تحفل به المواقع الإلكترونية والميديا الاجتماعية من تغطية وردود أفعال... هذا، إلى أن اخترقت أذناى عبارة يندر أن يسمعها المرء هذه الأيام من أى معلق تليفزيوني، مذيعا كان أو ضيفا. «ثورة يناير علمت الداخلية درسا لن تنساه، على لسان قيادة شرطية كبيرة، متقاعدة، أعادت انتباهى فورا إلى ال «فلات سكرين» الكبيرة المعلقة فى صدر المقهي، حيث وجدت المساعد السابق لوزير الداخلية يلفت الانتباه إلى أن ثورة يناير اندلعت فى يوم عيد الشرطة، تعبيرا عن الاحتجاج على ما شاب الفترة السابقة على الثورة من «تجاوزات» عديدة ارتكبتها أجهزة الأمن بحق المواطنين. هناك قواعد وأصول معروفة للحوار الصحفي، ومن بينها أن يكون الصحفى قد بذل جهدا فى التعرف على سيرة وآراء ومواقف الشخصية التى يحاورها، وعلى القضايا التى يثيرها ويطرحها الحوار مع تلك الشخصية، وطالما كنت أحذر شباب الصحفيين الذين عملت معهم من حوارات «انتى اشتغلى آيه؟» على طريقة الرائعة مارى منيب فى مسرحية «إلا خمسة». فكثيرا ما تطالعنا حوارات صحفية (مطبوعة أو مذاعة) تُستهل باستظراف من نوع: «من أنت؟» أو «حدثنا عن نفسك» أو «حدثنا عن انجازاتك» والسؤال الأخير أدهى وأمر لأنه يتخذ من الجهل والكسل ذريعة للتزلف والنفاق. ومن بين أصول الحوار الصحفى أيضا أن يسعى الصحفى المحاوِر لاستخراج أقصى ما يمكن من المعلومات والمواقف والأفكار ممن يحاوره، وأن يكون متأهبا للانقضاض على أى معلومة أو فكرة مهمة من شأن استيضاحها أن يصنع خبرا، وأن ينير الرأى العام بحقائق جديدة. وبداهة لا تتضمن مهارات الحوار الصحفى أن يحاور الصحفى نفسه، ويدلى بآرائه هو، بل وأن يقطع حديث الشخصية التى يحاورها ليدلى بدلوه فى موضوع الحوار أو ما بدا له من خواطر. وليس بالتأكيد من بين تلك المهارات والقواعد «تغشيش» الإجابة للشخص المحاوَر أو فرضها عليه. سؤالان بديهيان يترتبان إجبارا، ووفقا لأبسط قواعد الحوار الصحفى وأصوله، على التصريح المهم آنف الذكر لمسئول كبير سابق فى وزارة الداخلية. السؤال الأول هو: ما هو حجم واتساع نطاق وطبيعة «تجاوزات» تسببت فى تفجير ثورة كبرى شارك فيها الملايين من أبناء الشعب المصرى وأطاحت برئيس الدولة وأودعته السجن؟ والسؤال الثانى والأهم: هل تعلمت «الداخلية» فعلا درسا لن تنساه، أم أن الدرس قد ذهب فى غياهب النسيان؟ فماذا عما يقال عن شيوع التعذيب واساءة المعاملة فى السجون وأماكن الاحتجاز؟ ماذا عما يقال عن منع الزيارات عن المحتجزين؟ ماذا عن عبدالله الشامى ومحمد سلطان، الصحفيين المحتجزين شهورا طويلة دون اتهامات محددة أو محاكمة، والمضربين عن الطعام لأكثر من مائة يوم؟ وماذا عما يقال عن الاستخدام المفرط للعنف فى فض المظاهرات؟ وماذا عن قانون التظاهر المسمى بقانون منع التظاهر، والذى أعدته وزارة الداخلية وحكم وفقا له ب 15 عاما على علاء عبد الفتاح و24 شابا وشابة كانوا فى مقدمة ثورتى 25 يناير و30 يونيو؟ وماذا عن ماهينور المصري، وهى أيضا من بين رموز الثورتين وتقضى عقوبة عامين فى السجن بسبب هذا القانون؟ لم يسأل محاوِرنا التليفزيونى أيا من هذه الأسئلة، بُهت وتلعثم ثم سارع لفرض الرقابة على مساعد وزير الداخلية السابق، ليسأله سؤالا متضمنا إجابته: ولكن هناك من يضعون التجاوزات الفردية المحدودة «تحت العدسة» ويتجاهلون ... غنى عن الذكر أن «سؤالا» كهذا لا تعقبه علامة استفهام. هل يكفى السابق تفسيرا لعزوفى عن البرامج «الحوارية» فى التليفزيون المصرى؟ السؤال للقارئ. لمزيد من مقالات هانى شكرالله