تعانى مصر منذ عقود - باستثناء سنوات قليلة – من عجز فى الموازنة العامة للدولة. إيرادات الحكومة لا تكفى لتغطية نفقاتها رغم القصور الشديد فى حجم ما تنفقه على خدمات الصحة والتعليم والمرافق والإسكان الشعبى مقارنة باحتياجات المواطنين، ورغم انسحابها منذ سنوات طويلة من مجال إقامة المشروعات الجديدة أو حتى تجديد آلات ومعدات مصانع القطاع العام التى ما زالت مملوكة للدولة وتزويدها بمستلزمات الانتاج اللازمة لتشغيلها. الموازنة العامة تعانى عجزا يؤدى إلى استدانة الدولة من الداخل وأحيانا من الخارج لتتمكن من تغطية إنفاقها الذى هو أصلا أبعد ما يكون عن متطلبات التنمية وطموحات الشعب المصرى فى حياة كريمة. المذهل رغم هذا الوضع أن هناك إصرارا منذ عقود على التنازل طواعية عن موارد ضخمة كان المفترض أن تئول للموازنة العامة، والتبرع بها لخزائن الدول الأخرى، بدعوى تشجيع واجتذاب الاستثمارات الأجنبية. بحت أصواتنا ونحن نكرر أن المستثمر الأجنبى الذى نعفيه من الضرائب على ما يحققه من دخول وأرباح فى بلادنا سيدفع ضرائب عنها فى بلاده، وبالتالى فخزانتنا العامة أولى. إلا أننا مستمرون فى التنازل عن مستحقاتنا للغير ثم الشكوى من عجز الموازنة العامة، ومن عبء الدعم، ومن مطالب رفع الحد الأدنى للأجور. بالطبع لا يزال الجدل مستمرا حول مشروع فرض ضرائب على أرباح التعاملات فى البورصة. ومازالت النغمة التى تتردد هى الخوف من هروب المستثمرين. ألم يسمع السادة المعترضون عن شىء إسمه “اتفاقيات منع الازدواج الضريبى”. هذه الاتفاقيات تعقدها الدول المختلفة لكى تنظم مسالة خضوع مواطنيها وشركاتها للضرائب فيما يتعلق بالدخول التى يحققونها فى الخارج. وتستهدف هذه الاتفاقيات عدم خضوع المستثمر للضرائب مرتين ، مرة فى البلد التى تحقق فيها الدخل ومرة أخرى فى بلده الأم. وعادة ما يتم فى تلك الاتفاقيات تحديد الموقف بالنسبة لكل نوع من أنواع الدخول وتحديد ما إذا كان المستثمر سيدفع الضرائب عنه فى البلد المضيف أم فى بلده الأصلى، وهو الأمر الذى يخضع عادة لقوة المركز التفاوضى بين الدولتين طرفى الاتفاقية. فالمبدأ الذى تقوم عليه مثل تلك الاتفاقيات إما أن تكون الغلبة لدولة المستثمر الأجنبى أى يكون لها الحق فى فرض الضريبة، أو أن تكون الغلبة للدولة المضيفة التى تحققت فيها الدخول والأرباح لذلك المستثمر. فى كل الأحوال سيدفع المستثمر الأجنبى الضريبة إما لدينا أو فى بلده الأم. بل إنه فى الأحوال التى يكون فيها معدل الضريبة لدينا أقل من معدلها فى بلد المستثمر فإنه يدفع هناك “بقية الضريبة”. وبالتالى لا يوجد أى معنى لا لمنح إعفاءات ضريبة ولا لتخفيض معدلاتها عن المعدلات العالمية، إلا إذا كنا نصر على التنازل عن حق الدولة وحق الشعب والتبرع به طواعية للدول الأخرى. الأمر الهام هو أننا بحاجة شديدة لمراجعة اتفاقيات منع الازدواج الضريبى التى عقدناها مع دول العالم المختلفة وما يكون قد تم عليها من تعديلات فى ظل النظام السابق، تفقد مصر حقها فى فرض الضرائب على الأرباح الرأسمالية للمستثمرين الأجانب. ولعل من أبرز النماذج التى يمكن الإشارة إليها فى هذا المجال التعديلات التى أقرها مجلس الشعب فى عام 2004 على اتفاقية منع الازدواج الضريبى مع فرنسا. فالاتفاقية القديمة كانت تعطى لكل من مصر وفرنسا الحق فى فرض الضرائب على الأرباح الرأسمالية الناتجة عن بيع الأوراق المالية فى كلا البلدين. ولكن تم تعديل ذلك النص ليصبح فرض الضريبة من حق الدولة التى يقيم فيها المستثمر فقط. وبالتالى لم يعد من حقنا أن نفرض أى ضرائب على مايحققه المستثمر الفرنسى من أرباح رأسمالية فى البورصة المصرية، وهو ما شاهدناه بالفعل عند بيع حصة الشريك الفرنسى فى بنك الأهلى سوسيتيه جنرال، ثم بنك بى إن بى بارى با، ولم تحصل الخزانة المصرية مليما واحدا ضرائب عن الأرباح الضخمة التى تحققت على أرض مصر فى هاتين الصفقتين. يقولون لنا، ولكن الاتفاقية تعطى لمصر الحق نفسه، ويمكنها أن تفرض ضرائب على الأرباح الرأسمالية التى يحققها المستثمرون المصريون فى البورصة الفرنسية؛ فالمعاملة بين البلدين هى على قدم المساواة. بالله عليكم أنا راضية بشهادة مصلحة الضرائب المصرية عن مدى قدرتها على ملاحقة وتحصيل الضرائب عن الدخول والأرباح المحققة فى داخل مصر، فما بالك بملاحقة ما يتحقق خارجها! هناك 50 اتفاقية منع ازدواج ضريبى عقدتها مصر مع دول العالم، من بينها العديد من الدول الصناعية المتقدمة وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية والمملكة المتحدةوفرنسا وألمانيا واليابان وسويسرا وكندا، وغيرها من الدول الكبرى، فضلا عن الصين وروسيا والعديد من الدول العربية والآسيوية. علينا أن نراجع بنود تلك الاتفاقيات وما يكون قد أجرى عليها من تعديلات فى ظل النظام السابق لنتبين حقوقنا المهدرة ونتخذ الإجراءات اللازمة لتصحيح الوضع. نحن لا نملك ترف التنازل عن أموال تحتاجها الموازنة العامة للوفاء باستحقاقات التعليم والصحة التى نص عليها الدستور ولتوصيل شبكات المياه والصرف الصحى والطرق لقرى الصعيد و توفير سكن آدمى لقاطنى العشوائيات وإعادة الحياة لمصانع القطاع العام. قائمة طويلة من استحقاقات ملحة وضرورية ترى الحكومات المتعاقبة ألا حل للوفاء بها إلا المزيد من الاستدانة. لمزيد من مقالات د. سلوى العنترى