فى اليوم التالى لتنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسى تصدرت الصحف على اختلاف توجهاتها- عناوين متشابهة تتحدث عن «الدولة العائدة». فى التعبير شجن، وإطراء، وحنين للدولة التى يريد المواطن أن يشعر بوجودها بعد أن ضربت الفوضى بدرجات متفاوتة- أطناب المجتمع، لم يكن المواطن بالتأكيد راضيا عن أداء الدولة قبل أن تغيب، كان يشكو فسادها، وجبروتها، وانسحابها عن توفير الخدمات الأساسية، وهو الآن يتطلع إلى عودتها فاعلة، حاضرة، تقدم المنافع العامة فى مجالات التعليم والصحة، وإنشاء ورعاية المرافق العامة، الحفاظ على الأمن، وصيانة البيئة، ودفع جهود التنمية، ودرء المخاطر الخارجية. لا تستطيع مؤسسات الدولة المصرية أن تقوم بهذه الأدوار دون إصلاح مؤسسي، هذه ليست معضلة مصرية خاصة، لكنها «هم عام» تتشارك فيه الدول النامية، وكم من برامج لإصلاح المؤسسات العامة أطلقت فى الدول المتعثرة تنمويا، كان لبعضها عائد ملموس، وبعضها رغم ما أنفق عليه من موارد لم تكن له نتائج ذات بال، وبالتالى السؤال الأساسى فى هذا الشأن: كيف نُصلح المؤسسات العامة؟ التحدى الأبرز- فى رأيي- الذى يعترض طريق الرئيس الجديد هو إصلاح المؤسسات العامة، ليس فقط لأنها متضخمة، مترهلة، تحكمها قوانين بالية، ويسكنها نحو ثمانية ملايين موظف يتفاوتون فى القدرات والكفاءات، ويتحركون فى ظل إطار لا تحكمه رؤية مؤسسية واضحة، ولكن- وهذا هو الأهم- أن البرنامج الرئاسى يراهن على مؤسسات الدولة فى تنفيذه، يعيدها إلى مقعد السائق فى قطار التنمية. وبالتالى المضى بوتيرة متسارعة على طريق إصلاح المؤسسات العامة يمثل «ضرورة تنموية» فى ذاته.ويصعب أن نتحدث فى عجالة عن إصلاح المؤسسات العامة، ولكن يمكن أن نتوقف فى هذا السياق أمام عدد من الدروس المستفادة فى إصلاح المؤسسات العامة مستمدة من تجارب دول أخرى، والتى أتصور أنها تصلح للحالة المصرية. الدرس الأول: لا توجد «وصفة جاهزة» لإصلاح الجهاز الإدارى فى كل الدول، لأن المسألة تتعلق فى الأساس بالثقافة السائدة، ومستوى التطور السياسي، والتقاليد المتوارثة فى المؤسسات الحكومية. فشلت التجارب التى حاولت استنساخ نماذج بعينها لإصلاح المؤسسات العامة خاصة تلك التى روجت لها المؤسسات الدولية بوصفها «الخطة الناجعة لإصلاح الإدارة العامة». ويحذر أساتذة التنمية من اعتبار الإصلاح المؤسسى مجرد قضية فنية، تعالج بوصفات جاهزة، لأن ذلك بداية الفشل، فالإصلاح الإدارى شأن يتصل فى الأساس بثقافة ممارسة الوظيفة العامة، وهى بالتأكيد تختلف من مجتمع لآخر. الدرس الثاني: لا تنجح تجارب إصلاح المؤسسات العامة ما لم يؤمن العاملون بها- قبل غيرهم- بأهميتها مما يجعلهم أكثر مساندة وأقل مقاومة لها. وكم من تجارب مهمة فشلت لأن العاملين لم يساندوها، وأشاعوا أجواء سلبية حولها. الدرس الثالث: اختيار القيادات الواعية المؤمنة بالإصلاح شرط أساسى لإحداث تغيير فى ثقافة العمل، وطبيعة ممارسة الوظيفة العامة، القيادة الرخوة، النمطية، المرتعشة لا تصنع إصلاحا فى أى مؤسسة بل على العكس تؤدى إلى التواكل، والتراخي، والعمل بالحد الأدنى. الدرس الرابع: تقل فاعلية برامج إصلاح المؤسسات العامة إذا نٌظر إليها على أنها «شأن مؤسسي» تختص به الحكومة، ولا شأن للمجتمع به، الشعار الداعى إلى أن إصلاح كل مؤسسة شأن يخصها دون سواها لا يؤدى إلى إصلاح جاد، بل ينتج تجميلا شكليا لا يطول الممارسة الحقيقية للوظيفة العامة، ينبغى أن يكون إصلاح المؤسسات جزءا من حوار مجتمعى عام، ومشاركة عريضة من جانب المواطن، ومعرفة عميقة بما يجرى من تغيير فى القوانين واللوائح والممارسات على أرض الواقع. الدرس الخامس: التركيز على «الكيف» وليس فقط «الكم» فى الإصلاح المؤسسي. لا يمكن بسهولة قياس التحسن فى أداء حكومة ما بشكل عام، بل ينصرف القياس إلى حالات بعينها يحدث فيها تحسن فى «كم» و»كيف» الخدمة المقدمة، هنا يأتى دور الإعلام، جمعيات حماية المستهلك، استطلاعات الرأى حول كم وكيف الخدمات المقدمة، جلسات الاستماع مع المواطنين لرصد الاقتراحات والشكاوى، آليات المساءلة البرلمانية، الخ. فى هذه المعركة التفاؤل والتشاؤم لا محل لهما، إصلاح المؤسسات العامة ليس بالأمر الهين الذى يستغرق فترة زمنية محدودة، بل قد يستغرق عقودا كما حدث فى خبرة الدول المتقدمة، فى بريطانيا على سبيل المثال وضع فى عام 1854م نظام للخدمة المدنية على أساس الكفاءة فى إطار من حكم القانون، ولكنها ظلت تكافح لأكثر من ثلاثين عاما تالية لمواجهة المحسوبية داخل الجهاز الإداري. وبالتالى ليس من الإنصاف تقييم تجارب الإصلاح بعد عام أو اثنين، بل المهم هو وجود خطط مستمرة، وقيادات متعاقبة تواصل مسيرة الإصلاح، واعتبار الاخفاقات والأخطاء سبيلا للتعلم والتصويب المستمر وليس دافعا للانقضاض على فكرة الإصلاح ذاتها مثلما حدث فى بعض الحالات. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى