«الوطنية الكروية بين عودة الروح وطلوعها» عنوان مقال كتبته لجريدة الشروق فى نوفمبر 2009 تعليقا على حالة الهوس الذى أمسك بتلابيب الأمة المصرية عقلا ووجدانا بسبب ماتش كرة بين مصر والجزائر. «اللى يشوف منكم جزائرى فى الشارع، يقتله،» يصرخ إعلامى شهير بالصراخ عبر شاشات التليفزيون. «فنانة» كان أول عهدى بها وهى تصف شعب المليون شهيد ب «الصراصير».علاء مبارك بطلا قوميا لتصريحاته «النارية» ضد الجزائر والجمهور الجزائرى الذى وصفه ب«المرتزقة وخريجى السجون» (مقارنة بالجمهور المصرى من «أبناء العائلات»). لم يكن بد من أن تصاب الوطنية المصرية بما أصاب مختلف نواحى الحياة فى بلادنا من عطب وانحطاط خلال العهد المباركي، لتكشف مباراة كرة لم نكن لنأمل من ورائها غير مجرد دخول كأس العالم حتى نسارع بالخروج منه،عن وطنية مزيفة، سقيمة وخاوية، تبتذل خطاب الآمال الوطنية واللحظات التاريخية ومعارك الاستقلال، بل و«معجزات» بناء الأهرامات والسد العالى وعبور 6 أكتوبر، تعبئة لحمى هستيرية وكراهية محمومة تجاه آخر أهم مميزاته عند أبطال المواجهة هو أنه هدف سهل فى معركة تافهة. كتبت ساعتها: «روعة الوطنية الكروية انها وطنية لا تحتاج إلى مواطنين، يكفيها مجرد مشجعين.» ثم جاءت ثورة يناير وعودة الروح، وكأن الوطنية المصرية كانت قد قُلبَت على رأسها خلال العهود السابقة فعادت لتقف على رجليها، معتدلة، راسخة فى الأرض، مرفوعة الهامة. كتب توفيق الحكيم مؤلفه المؤسس «عودة الروح» احتفاءً بما كان فى الواقع المولد الحقيقى للوطنية المصرية فى ثورة 1919، وجاءت الثورة الشعبية المصرية الثانية خلال قرابة قرن من الزمان لتشكل عودة روح حقيقية للوطنية المصرية بعد أن ضمرت وتحللت خلال عهد كان الضمور والتحلل والانحطاط أبرز خصائصه، حيث كانت حرب أكتوبر 73 يمثابة صيحتها الأخيرة. الشعوب تصنع نفسها، وقد صنع الشعب المصرى نفسه فى آتون معركة كبرى عنوانها الاستقلال والدستور جسدتها ثورة 19، وصقلها من خلال معارك متصلة للتحرر الوطنى تفتح فيها أيضا على عروبته وموقعه من العالم. ثم جاءت سنوات الانحطاط، ولم تكن الوطنية الكروية هى مظهره الوحيد. العنوان الأهم لوطنية الانحطاط هو الجعجعة بلا طحين، تمتد عبر طيف عريض من الزيف والنفاق وصولا للحمى والجنون، وتمتد جغرافيا لتشمل العالم العربى بأسره، ومنه إلى محيطه الإسلامي، فمن «وطنية» جمال وعلاء وأحمد عز الكروية إلى «وطنية» القبيلة والدم لبن لادن وبوكو حرام. إعلان تجارى شاع شيوعا كبيرا فى مصر خلال تلك السنوات بدا لى التعبير الأمثل عن وطنية سنوات الانحطاط، فهى «بيرة بلا كحول»، هى كيماوى صدام المزدوج وقنبلة بن لادن النووية، هى الاستئساد على الجزائر، والاحتماء بجيتو الهوية، وهى تحجيب وتنقيب رؤوس النساء وعقول الجميع، رجالا ونساء وأطفالا، وهى خطف البنات وتدمير الكنائس واستئصال المسيحيين العرب من أوطانهم العربية بعد عيش فى ظل الإسلام دام أكثر من 1400 عام. كان رجل الإعلام الأول عند مبارك يتصل برجاله إبان زيارات الرئيس أو ولى عهده للولايات المتحدة ليطلب: «شد لنا على أمريكا شوية». ننسى أن «البطل» الحقيقى وراء هيستريا الكاريكاتير الدنماركى المسئ للرسول هو النظام المصري، وبفضلها وصلت العنصرية الرديئة المعادية للإسلام والمسلمين من قبل جريدة تافهة الشأن تصدر بلغة لا يعرفها غير أهلها (أقل من6 ملايين) إلى البلايين من الناس فى أنحاء العالم. ننسى تطوع كتاب مبارك من مكاتبهم الوثيرة بملايين القنابل البشرية فى فلسطين وفى العراق وفى غيرهما من بقاع الأرض بينما النظام الذى يسبحون بحمده ليل نهار يجعل من رضاء أمريكا (المتوقف على رضاء إسرائيل) المكون الجوهرى لسياسته خارجيا وداخليا. النفاق والكلام بألسنة متعددة من المظاهر المميزة ل«وطنية» الانحطاط، ولعلنا نجد فى واقعة اقتحام السفارة الأمريكية فى ظل حكم الإخوان المسلمين نموذجا طريفا بقدر ما هو ساطع. فيلم قبيح وردئ، من ورائه الموساد، يسئ للإسلام والرسول، وهدفه استفزاز رد الفعل الهستيرى المحموم الذى شهدناه بالفعل فى ربوع العالم الاسلامي. فالربيع العربي، والثورة المصرية فى قلبه، أثار انبهار العالم وأحدث تحويلا بدا جذريا فى صورة العرب والمسلمين فى أنحائه، فلنعيدهم إذن إلى الصورة التقليدية: متعصبون، لا عقلانيون، عنيفون ومحمومون. الإخوان فى مصر يلبون النداء بخطل معهود. بياناتهم باللغة العربية تدعو الأعضاء والحلفاء لمواصلة التظاهر عند السفارة المقتحمة، وبياناتهم بالإنجليزية تدين الاقتحام وتؤكد الصداقة المصرية الأمريكية، الأمر الذى أدى بأحد أعضاء السفارة الأمريكية بنشر تغريدة موجهة لقيادة الإخوان: «نحن نقرأ العربية أيضا». علمت فيما بعد أن الخارجية الأمريكية قامت بتوبيح هذا الشخص ونقله خارج مصر، فعلاقاتهم بالإخوان أقوى من أن تهتز بتوافه الأمور من قبيل اقتحام سفارتهم فى القاهرة. ثورة يناير لم تعد الروح للوطنية المصرية فحسب، وإنما أعادت صياغتها، انتزعت العلم المصرى من أيدى جمال وعلاء وأحمد عز وأعادت امتلاكه كراية الشعب وراية الثورة، نبذت الهويات القبلية المحتمية بكراهية الآخر، لتصوغ وطنية مصرية قوامها «ارفع رأسك فوق انت مصري»، فهى وطنية أساسها كرامة المواطن، والمساواة والتكافؤ بين أبناء الوطن الواحد، رجالا ونساء، مسلمين ومسيحيين، هى وطنية انتزاع حقوق المواطن، وتحقيق إرادته فى وطنه. تعثر الثورة المصرية وعجزها عن التحقق فتح الطريق أمام عودة وطنية الزيف والخواء والنفاق، وطنية طلوع الروح وتطليعها، وهى التى تصدح بها الكثير من وسائل الإعلام المصرية هذه الأيام. مستقبل الوطن يتوقف على أى وطنية نختار. لمزيد من مقالات هانى شكرالله