3 أيام متتالية إجازة رسمية للموظفين والبنوك والمدارس    الطيران المدني: تعليق تشغيل بعض الرحلات الجوية المتجهة إلى الأردن والعراق ولبنان    ترامب: كميات كبيرة من الأسلحة الأكثر فتكا في العالم متجهة لإسرائيل    قطر والسعودية تستضيفان ملحق تصفيات آسيا المؤهلة لكأس العالم 2026    قبل موقعة إنتر ميامي.. الأهلي "كابوس" أصحاب الأرض في كأس العالم للأندية    العثور على جثة شاب مذبوحًا في قرية اقفهص ببني سويف    الأرصاد تحذر من ذروة الموجة الحارة اليوم: حرارة تلامس 44 وتحذيرات هامة للمواطنين    ضبط سائق سيارة عرض حياة المواطنين للخطر في الشرقية    الصحة تطلق حملة توعوية لتعريف المرضى بحقوقهم وتعزيز سلامتهم بالمنشآت الطبية    روسيا تسيطر على 3 بلدات وتكشف خسائر الجيش الأوكراني في أسبوع    أبو العينين: الأهلي لو طلب عيني أدهاله    أنقذه مخرج الطوارئ.. الناجى الوحيد من طائرة الهند: رأيت الناس تموت أمام عيني    ترامب والمونديال.. دعوة رسمية لحضور النهائي وغموض حول حضوره مباراة الأهلي    أسلحة ومطاردة مثيرة.. تفاصيل محاولة اعتداء على رئيس مدينة بلبيس خلال حملة إزالة    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 13 يونيو 2025    وزير الصناعة والنقل :ميناء دمياط يستقبل 5 أوناش رصيف عملاقة من أوناش ( STS ) المخصصة لمحطة الحاويات " تحيا مصر 1"    "كل يوم بروح نادي".. محمد شريف يكشف حقيقة اتفاقه مع زد    برنامج تدريبى عن مبادئ وأساسيات الإتيكيت المهنى للعاملين بالمتحف الكبير    أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم الجمعة 13 يونيو 2025    أسعار الأسماك اليوم الجمعة 13-6-2025 فى الإسماعيلية    السيطرة على حريق محل داخل مول فى مدينة 6 أكتوبر    أطلق عليه عيار ناري على المقهى.. أمن القليوبية يكثف جهوده لضبط قاتل شخص ببنها    حملات أمنية لضبط جالبي ومتجري المواد المخدرة والأسلحة النارية والذخائر غير المرخصة في أسوان ودمياط    إخلاء سبيل والد عريس الشرقية المصاب بمتلازمة داون ووالد عروسه    عرض أولى حلقات مسلسل فات الميعاد اليوم على watch it وغدًا على DMC    إنفوجراف| إسرائيل تدمر «عقول إيران» النووية.. من هم؟    أسباب عين السمكة وأعراضها ومخاطرها وطرق العلاج والوقاية    تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء.. تحرير 137 مخالفة لمحلات لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    الأحد.. ثقافة الفيوم تقيم ورشة مجانية لتعليم كتابة القصة    بث مباشر| شعائر صلاة الجمعة من مسجد «الجامع الأزهر الشريف»    الحج السياحي في مرآة التقييم ..بين النجاح وضيق المساحات.. شركات السياحة تطالب بآليات جديدة لحجز مواقع الحجاج بالمشاعر المقدسة .. دعوات بعودة التعاقد الفردي مع المطوفين    رئيس البيت الفني للمسرح يفتتح أولى ليالي «الفندق» بأوبرا ملك.. صور    "happy birthday" يحقق إنجازًا مصريًا ويحصد 3 جوائز من مهرجان تريبيكا    مطلوب في ليفربول.. باريس سان جيرمان يغلق باب الرحيل أمام باركولا    وكيل الأوقاف ببني سويف يوجه بضبط استخدام مكبرات الصوت لعدم إزعاج المواطنين    قطار الموت يدهس شابين بقنا.. أحلام "ولاد العم" انتهت في لحظة    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من الجامع الأزهر    كوكا: ميسي يكلم الكرة.. ولا أحب اللعب في هذا المركز    رسالة سلام من الباليه الوطني الروسي للعالم بالأوبرا    بعد استهداف إيران.. رئيس الأركان الإسرائيلي: «كل من يحاول تحدينا سيدفع ثمنا باهظا»    رئيس مدينة بلبيس يتعرض لمحاولة اعتداء مسلح أثناء ضبط مخالفة بناء    من صمت الصخور إلى دموع الزوار.. جبل أحد يحكي قصة الإسلام الأولى    محمد شكري يكشف حقيقة الانتقال للأهلي بعد مونديال الأندية    رئيس الوزراء: نتابع الموقف أولا بأول وتنسيق بين البنك المركزي والمالية لزيادة مخزون السلع    وزارة الطيران: المجال الجوي المصرى آمن ويعمل بشكل طبيعي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 13-6-2025 في محافظة قنا    في ختام رحلة الوفاء.. أسر الشهداء يغادرون المدينة المنورة بقلوب ممتنة    جعفر: الفوز بكأس مصر كان مهم قبل بداية الموسم المقبل    مع إعلانها الحرب على إيران.. إسرائيل تُغلق مجالها الجوي بالكامل    نتيناهو: نحن في لحظة حاسمة في تاريخ إسرائيل وبدأنا عملية «شعب كالأسد» لإحباط المشروع النووي الإيراني    "مستقبل وطن المنيا" ينفذ معسكرا للخدمة العامة والتشجير بمطاي    «سهل أعمل لقطات والناس تحبني».. رد ناري من محمد هاني على منتقديه    وكيل وزارة الصحة بالشرقية يؤكد على دور الإعلام الحيوي في دعم المنظومة الصحية    100% ل 3 طلاب.. إعلان أوائل الابتدائية الأزهرية بأسيوط    تعرف على برامج الدراسة بجامعة السويس الأهلية    دينا عبد الكريم تلتقي بالسفير حبشي استعدادًا لجولة كبرى لبناء قواعد للجبهة الوطنية من المصريين بالخارج    موعد إجازة رأس السنة الهجرية 2025.. عطلة رسمية للقطاعين العام والخاص    تعامل بحذر وحكمة فهناك حدود جديدة.. حظ برج الدلو اليوم 13 يونيو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عظيمة يا مصر
نشر في الأهرام اليومي يوم 30 - 05 - 2014

«أعيش وأشوفك يا روح أمك وانت عريس وندر عليّ والندر دين أرقص لك وأزغرد لك يوم فرحك».. تلك أمنية كل أم عندما تُعبِّر عن أوج فرحتها فى أحلى أيام عمرها، يوم زفاف ابنها،
بالرقص والزغاريد.. ومهما تكتئب المصرية وتتنهد من الأعماق، وتمصمص الشفاه أسفاً على ميلة بختها وتعاسة حظها وكمونها فى وضعها التاريخى متكئة بخدها على ذراعها، فإن هذا الكيان الصامت المحبط بداخله شحنة هائلة خامدة تلتهب فجأة كيقظة بركان عندما تلتقى بالوعد.. لحظة أن يسرى فى الدماء تيار السرور.. فى توقيت الآذان بإيذان قيام عصر الأمان.. فى صباح تمتد فيه يد تحنو وتربت وتصطحب.. ساعة أن يأخذها جلال الإفصاح والتصريح والتعبير والإعلان عن مكنون فرحتها، فينفض الجسد عنه ثوب الهم والغم، مُحطماً قالب الجبس وقيود العنت وأصفاد الإقصاء، فى عودة عارمة لمنظومة الليونة والنعومة والمرونة والتجلى والعطاء والحركة الراقصة المبهرة.. وبدلا من الآّهات والأنّات والزفرات ينشغل الفم المبتهج كمحارة اللآلئ بتوزيع أوبرالى لأوركسترا الزغاريد، ونعرف من زغرودة شباك المنور إن الفرحة فى شقة التالت لأجل إن البنت جالها العدل، أو ابنهم أخذ الشهادة، أو الأستاذ كسب القضية، أو الجدّة طلعت فى قرعة الحج السنة دي.. والمصرية بطبيعتها فرايحية لكن أزمنة النكد طالت لتخنق الفرحة وتوئِد الضحكة وتدفن الزغاريد، وتجرّم الحركة التى بها بركة، وجماعة التكفير والترهيب سودوا العيشة واللى عايشينها، وخشّبوا الأجساد والعقول والأفئدة والألسنة وأفتوا بأن الباليه حرام والمسرح حرام وأم كلثوم حرام، وأدانوا نصفنا الأسفل لنمضى وكأننا نعيش لنحمل الإثم وموضعه الحرام وعلينا توبة منه بتقديم القرابين لمن أفتوا بغير الدين وقتلوا الجدع لأنه ماشى ساعة العصارى فى قنا مع خطيبته على شط النيل.. ولأن أمى وخالتى وأختى وبنتى وحفيدتى وجارتى وصاحبتى لمس قلوبهن تيار الأمل، وسرت فى أبدانهن موسيقى ترقّص الحجر، رقصن وزغردن بطول البلاد وعرضها حتى أصبحت أجواء الانتخابات الرئاسية بمثابة حفلات زار كبرى لطرد الشياطين التى عششت واستحكمت وحان أوان إبادتها فى عُقر أوكارها ومقارها وأنفاقها... ملايين المصريات الناخبات الواعيات الملبيات المستبشرات المسنات المتساندات على عصيهن وأهلهن ودعائهن لرب السماوات، الزاحفات من الكفور والنجوع والحارات والقصور أكملن بحس المصرية المستنفر وقت الشدائد رسم خريطة الطريق، وعندما اشتد الحر فوق الرءوس هدهدنه.. داعبنه.. صاحبنه.. استملنه.. استرحمنه.. رقصن وزعردن له.. فكسر من أجلهن شوكته وأصبح بردًا وسلاماً لتصبح طوابير المصريات الفرحات الضاحكات الراقصات المزغردات تحت لهيب الشمس وكأنهن فى يوم عيد، لتعد ظاهرة حصرية مصرية عالمية تدرس فى صفحات التاريخ السياسى العالمي.. وأينما توجد الفرحة على أرض مصر يلازمها الرقص، حتى مع مولودة اللفة التى لا تلاغى ولا تناغى ولا تكركر من الضحك اللهم إلا بالترقيص والهشتكة، وحاجة ربّانى بدون تعليم ولا دياولو إتقان الطفولة للرقص قبل الخروج من البيضة، وكأنها مولودة بجينات الرقص، حتى مشاهد الاستعراض فى أفلامنا تبدأ بالفلامنكو والفالس والدانس والتانجو والكلاكيت لتستقر نهايتها السعيدة العريضة على واحدة ونص، وجرّب تدوّر موسيقى راقصة بجوار صغيرة غارقة فى النوم تلقى أصبع قدمها الكبير يترقص على النغمات.. ولعله الحدس الرهيف للمطرب والفنان الإماراتى حسين الجسمى الذى عزف لحنه مع كلمات أيمن بهجت قمر على أوتار فرحة المصريين بأعياد اختيارهم الحر الديمقراطى بدون زيت ولا سكر ولا تسويد بطاقات ولا المطابع الأميرية ولا فتح الجاكتة فى ميدان التحرير ولا منع للأقباط من التصويت بالصعيد، ولا صوت يقود للجنة وشفيق للنار، فرقصوا فى كل مكان «دى فركة كعب وهتعملها قصاد الدنيا هتقولها وخد بقى عهد تعدلها سكت كتير.. خدِت إيه مصر بسكوتك متستخسرش فيها صوتك بتكتب بكرة بشروطك دى بُشرة خيّر...»... ولأنها يوماً كانت ملكة الرقص الشرقى تحية كاريوكا جلس إليها المفكر والفيلسوف العربى الكبير إدوارد سعيد ليقيم معها حوارًا امتد لأربع ساعات حول فلسفة الرقص وتجاوب أعضاء الجسد مع النغمات ليكتب بعدها مقاله الشهير بعنوان «تحية إلى تحية» الذى ضمه كتاب تاريخ حياته «تأملات حول المنفي» وجاء فيه: «رقصت تحية ثلاثة أرباع ساعة.. ترقص والمطرب عبدالعزيز محمود يغني.. وكان أداء تحية نورانى إلى حد مستبعد التصديق.. رقصت كأنها تبعث برسالة وجدانية فى كل سطر وكل كلمة منها شرح طويل، مؤدية تأليفا رائعا ومتواصلا معظمه من الدوران الطويل.. تدور حور محورها فى اتزان محكم إلى حد الكمال، فيما الموسيقى تعلو وتهبط بنغماتها المتجانسة فتكتسب معناها من أداء أعظم راقصات زمانها حفيدة سالومى وكيلوباترا... وصلة من الفن الغامض والملهم والمنظم ببراعة هائلة، لكنه عصى على المنال والتقليد.. مرحاً على الدوام.. رقص أبلغ بوحاً من كل ما حلمت به أو تخيلته فى نثري».. كاريوكا عميدة الرقص الشرقى بطلة المسرحيات السياسية لزوجها الكاتب الكبير فايز حلاوة «يحيا الوفد» و«البغل فى الإبريق» التى قالت بعد سنوات من قيام ثورة يوليو 52: «كان هناك فاروق واحد والآن نعيش عصر الفواريق وأتمنى أن يطول عمرى لأرى ثورة أخرى تطيح بهم»..
التفكيك والتحميل
«المعرفة الدينية للسيسى ليست مجرد معرفة سطحية أو اختزالية والتى جاءت نتيجة لموجة السلفنة فى معرفة تنظيمية تعكس مقدارا واضحاً من التنشئة الدينية داخل المحاضن الإسلاموية، والفهم الدينى للسيسى يغلب عليه الطابع الأرثوذكسى التقليدى مع مسحة شعبوية تستبطن النزعة الصوفية للرؤى والأحلام والبشارات والمحتوى السلفى، وهو ينتمى إلى مدرسة العقل الإحالى وليس التأويلى فى فهم النصوص وإنزالها على الواقع مع خطاب دولتى فوقى بامتياز ويبدو أن جزءً مهماً من الصراع بينه وبين الإخوان يدور انطولوجياً وأيديولوجياً بالفهم والتصورات والرؤى الذهنية مع المفارقة الأبرز فى موقف القوى الليبرالية والعلمانية تحت ذريعة تحويل مصر إلى دولة ثيوقراطية من دون وصاية الدولة ورئيسها»..
بعض من كل فى سطور مالها من سلطان بعنوان «تفكيك الخطاب الدينى للمشير السيسي» فى مقال لأحد الكتاب العرب المتفقهين المتقعرين، مما يجعلنا نتساءل: وكان ماله الخطاب الدينى وهو واقف على حيله بدون تفكيك؟!!.. وحقيقي.. حقيقي.. لك الله يا سيادة الرئيس.. ويا حبيبتى يا مصر!
أسامة أنور عكاشة.. كان صرحاً
الاستشعار عن بعد ملكة أو حاسة سادسة يتميز بها البعض خلقة ربنا أو بالتدريب المكثف.. وكان أسامة أنور عكاشة ملكاً على عرش تلك الملكة حتى أنه استشف بإدراكه المتوهج أن سقف الحرية الإعلامية فى الثمانينيات يتجه نحو الارتفاع، فبادر إلى الدراما الصريحة التى تجرح ولا تدمي، وتبوح ولا تتستر، وتخرج أبطالا من غياهب الظلام إلى ساحات النور، وتضع الماضى بعبله برزاياه وأمجاده وطرابيشه ولياليه وأيامه أمامنا على الشاشة.. ولولا شجاعة عكاشة الذى اعتلى قمة جبل الدراما في40 عملا لما رأينا أعمالا مثل أبوالعلا البشرى والراية البيضاء وملحمته الخالدة «ليالى الحلمية»، ومسلسله السكندرى «زيزينيا»، وملهاته «عفاريت السيالة» وتطريزة «أرابيسك» وصولا إلى «المصراوية» ذلك البحث المطول حول تكوين الشخصية المصرية المعاصرة، وما آلت إليه، وماذا يحمل لها الغد، فى مسيرة يقرأ فيها بن عكاشة كف مصر الدرامى من بعد ما قرأه جمال حمدان جغرافيا كموقع ومكان.
عكاشة ابن طنطا فى عام1940 المنزوى عن رفاق الطفولة بجرح اليتم الغائر فى قلب العصفور ولم يزل فى السادسة.. اللاجئ لأحضان حجرة الكراكيب كمغارة على بابا التى عثر فى عزلتها على الكنز الذى لم تكن خبيئته دهب وياقوت ومرجان لكنه مع ذلك هتف أحمدك يارب فقد لاقى داخل الرحم البديل من جواهر المتعة ما كان يلهيه حتى عن اللعب بقراءة ما أودعه والده فيه من كتب ومطبوعات، فكان له الحظ فى السن الصغيرة أن يقرأ أيام طه حسين وكتابه عن الشعر الجاهلي، وللرواد رواياتهم أمثال محمود تيمور والمازنى ويحيى حقي، إلى جانب مجلدات اللطائف المصورة، ومسامرات الجيب وروايات الهلال وروزاليوسف والرسالة والمختار.. ولقد ربته صفحات الثقافة التى أسهمت فى توسيع مداركه، وشاركت فى تربيته زوجة الأب الحنون التى حاولت أن تعوضه مع شقيقه الأكبر أحمد والشقيقة الصغرى عن موت الأم المباغت، وكان فى احتواء الشقيقة له قبسُ من عطاء الأمومة الراحلة، لكنها بدورها رحلت لتأتى بعدها سنوات التأجج والظمأ العاطفى ببطلة سنة أولى حب وكانت زميلة الدراسة الجامعية فى كلية الآداب قسم الدراسات الاجتماعية والنفسية التى ما أن ظهرت على الحبيبين بصمات العواطف الشابة حتى انبرى الأهل كعادة الأهل لوضع المتاريس والحراب والصعاب والعذاب فى سكة الحب الذى تجاسر وولد بعيدا عن مياههم الإقليمية، فأعلنت العزائم الواجفة الراجفة توبتها النصوح وذهب كل فى طريق، لكن الرغبة التى لا تتحقق تظل تؤرق صاحبها، فيبقى العشق كامنا فى قلب العاشق المتفرد لا يموت لتثمر الأغوار الصاخبة حدائق ورياحين تخرج للسطح للهواء الطلق لتظلل زواجا تقليديا عذبا، وأبناء أربعة.
الحاج أنور الأب متواجد دوما يطل من بين سطور الابن الأديب أسامة إن لم يكن بشخصه سافرا فبظلاله المؤثرة حيث تقرأ فيها إعجابه به تاجرا محنكا حويطا فى كل الفروع، وقد أفلح وسط معاملاته النشطة بالإسكندرية فى أن يعقد صفقة مع الخواجة اليونانى خريستوفيدس قبل رحيله السريع إلى نيقوسيا، اشترى منه فيها مطحن بن كبير واثنين صغيرين، وفوق البيعة شقة واسعة على البحر فى محطة الرمل بأرضيات باركيه وزجاج ملون وحمامات ومطبخ وأوفيس ولوحات زيتية فى مقابل ستمئة جنيه فقط، لكنه عندما جرب المبيت فيها مع الحاجة والأبناء اكتشف أن ريحها ثقيل فتركها لأسامة حتى يظهر لها زبون.. وكان الابن يعذر الأب الذى يفكر من منظور مصلحة التاجر الذى يتوجس شرا من سياسة التأميم وقوانين يوليو الاشتراكية التى تؤدى حتما إلى استيلاء الدولة على أموال الناس، وعندما جلس يستمع إلى أغنية أعدها عبدالوهاب على وجه السرعة لتناسب التحولات الاشتراكية الجديدة وتقول كلماتها: «دقت ساعة العمل الثورى لكفاح الأحرار» علق ساخرا: صدق والله فقد دقت الساعة على أدمغتنا جميعا.
ومن شرفة شقة الرمل لشرفة المعمورة للعديد من الشرفات التى كانت من لوازم إقامة أسامة أنور عكاشة على شط الإسكندرية ليطل منها على البحر الكبير تحف به دائرة الأصدقاء يفئ بكرمه الحاتمى عليهم فيمضغون الطعام والدخان والحوار فى وضع الإتكاء أفضل الأوضاع فى نظرهم لأنه ينمى عادة التأمل، والتأمل يدفع إلى التفكير، وبالتالى يتحقق الإنسان بوجوده أنا أفكر إذن أنا موجود، فضلا إلى ما يضيفه الاسترخاء من هدهدة الجوانح وملئها بمشاعر التصالح مع النفس والسلام والتأنى والروية وتناول الأمور برفق والمشكلات بدون عصبية واتخاذ القرارات على المهل لتخرج صاغ سليم.. ويحاول صاحب الشرفة عبثا شرح العواقب الوخيمة لحالة البقاء دون حركة، حيث يقلل من حركة الدم ويزيد من ترسيب الدهون فى الشرايين والتعجيل بأمراض لا أول لها ولا آخر، لكن جميع محاولاته تذهب هباء مع حزب الشرفة، الذى هو نفسه حزب الكنبة، اللهم إلا عندما يطلق اقتراحه المدوي: إيه رأيكم فى عشوة سمان فى العطارين؟!! ساعتها ينتقل الحزب للعطارين!!
عاشق الإسكندرية المرية بنت الزعفران وغرامه بها ليس لأنها مجرد مكان أو مدينة لكنها حالة وجدانية لبست من المبدعين فيلقا مشعا شهد لهم التاريخ بالريادة والجلال أمثال «داريل» صاحب رباعية الإسكندرية والشاعر كافافيس وأدهم وسيف وانلى وسيد درويش وبيرم التونسى ومحمود سعيد ونجيب محفوظ فى ثلاثيته السكندرية «السمان والخريف» و«ميرامار» و«الطريق» التى لها نكهة متفردة يقطر رحيقها على لسان القارئ الذى يجد بينها وبين ثلاثية القاهرة «زقاق المدق» و«بين القصرين» و«السكرية» فروقا جوهرية، وإن كان الأسلوب نفسه والبناء الهندسى لا يختلف، لكن هدير زحام البشر فى الزقاق القاهرى مختلف تماما عن هدير الأمواج على الكورنيش، وصحبة قهوة ريش والكلام فى السياسة هنا، غير قعدة الصحبة الاسكندرانى وتقمص شخصية سيد درويش ودور «أنا عشقت» الذى ينتهى لتبدأ طقطوقة «خفيف الروح بيتعاجب».
كيف نقرأ الماضي؟ سؤال مهم وجهه أسامة أنور عكاشة لنفسه ليجيب عنه بنفسه: لابد وأن يسبق هذا السؤال سؤال آخر هو بأى ذهنية نقرأ؟!.. ذهنية الدروشة أم الاتباع الأعمي.. فى جميع الأحوال لابد أن تكون القراءة نقدية فى مجال إعادة فتح ملفات التاريخ، ولنضرب المثل بالدكتور طه حسين للشعر العربى عبر كتابه العظيم الشعر الجاهلى الذى وضع الأساس للمنهج النقدى الذى ينبغى أن نقرأ به تاريخنا الاقتصادى والاجتماعي.. لا يجب أن نقرأ للترنح والتخبط، بل القراءة لكى نناقش، وهذا هو المنطق المطلوب، وعند قدرتنا على هذا سيمكننا تجاوز وعبور كل مناطق التخلف».. ولقد أثار أسامة أنور عكاشة فى عام2004 لغطاً وضجة فى أوساط دارسى التاريخ الإسلامى عندما حل ضيفا على إحدى القنوات الفضائية للحديث عن أزمة الدراما الدينية وسئل لماذا لم تقدم مسلسلات دينية وتاريخية فأجاب ببراءة: «لأن الرقابة تشوه مثل هذه الأعمال وانظروا ماذا فعلت بمسلسل عمرو بن العاص الشخصية التاريخية التى ارتكبت أعمالا أدت إلى انقسام المسلمين إلى سنة وشيعة».. واندلع الحريق.. فقد لعنوه وكفروه وقدم أحد المحامين بلاغا إلى النائب العام يتهمه بالإساءة إلى رموز الإسلام وأعلن قيامه برفع دعوى لتفريقه عن زوجته باعتبار أنه مرتد، وحشدت جميع الأطراف أسلحتها ضد الكاتب الذى أرسى قواعد الأدب التليفزيوني.. ولم يكن عكاشة وحده من خرج عن نص إبداعاته، فقد زج غيره من المفكرين بأنفسهم فى غير تخصصاتهم مثلما خرج علينا الفيلسوف الكبير عبدالرحمن بدوى مدليا برأيه فى عالم السياسة، ومثله الناقد لويس عوض عندما كتب فى التاريخ، وعندما خرج المفكر حسين أمين بوجهة نظر تعتمد على أن أحد الصحابة لم يكن يجيد الصلاة مستشهدا بأحد كتب التراث التى حققها الباحث الإسلامى محمد عمارة، حيث وجد السبب فى العبارة يعود إلى أن الصحابى كان يطيل فى صلاته وعندما أدلى صاحب نوبل نجيب محفوظ برأيه فى التطبيع.. ونحن عندما نحاكم هؤلاء نظلمهم فليس مطلوبا من الفيلسوف أن يكون سياسيا محنكا، ولا تخول شهادة الدكتوراه التى منحت شرفيا للموسيقار محمد عبدالوهاب أن يقطع برأيه فى نظرية علمية، وليست قيمة نجيب محفوظ مستمدة من رأيه فى التطبيع، وبالتالى ليست كل قراءة تصيُدية للتاريخ تظهر وجه الحقيقة، ومن هنا ارتأى أسامة أن لابد من الاعتذار بأنه لم يكن قاصدا بلفظته الجارحة فى حق عمرو بن العاص الشخص ذاته وإنما السلوك والفعل وما ترتب عليه من آثار.. ويستدعى المعترك سؤال كما المصيدة لأسامة أنور عكاشة: لماذا لا يظهر فى أعمالك الفقه بأصول الدين وعقائده وتعاليمه، حيث تكاد تخلو من كلمة عن الإسلام؟ فيجيب الواثق من عقيدته: كل شخصياتى أو غالبيتها مسلمة تتحرك بقيم الإسلام وروحه، لكننى لا أستطيع أن أكون واعظا بشكل مباشر، فالناس فى أعمالى يصلون ببساطة شديدة، والمسجد وحدة أساسية فى أعمالى كما هو فى المجتمع ويرى كمثال فى ليالى الحلمية حيث الناس رايحين من الجامع وراجعين من الجامع، وفى «الشهد والدموع» اعتكف البطل فى المسجد، وهكذا لا أقول الصلاة خمس مرات، أو هكذا يكون الحج، فالمشاهد لا يحب المباشرة وفى جميع مسلسلاتى قيم أخلاقية أقولها بدون خطب ولا مواعظ، وعندما أقدم شخصيات قبطية أو غير مسلمة عموما فإننى أرسخ أن هذه الشخصيات جزء من نسيج المجتمع ككل، وأن فى المجتمع الإسلامى متسعا لكل أصحاب الأديان، ليس الآن فقط، ولكن منذ ظهور الإسلام وانتشاره.. أما فى حياتى فأنا أؤدى فرائض الإسلام من صلاة وزكاة وإذا أمرنى الطبيب بالإفطار لأننى مريض بالضغط والسكر والقلب والرئة أفطر وأفدى فى بلدى كفرالشيخ، وكان والدى متدينا يصر على إيقاظنا لنصلى الفجر فى المسجد فى عز طوبة، ويسمعنا القول: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، والجزاء على قدر المشقة..
أسامة.. أبو قلب ذهب.. القلب الرهيف طاله المرض.. سند قلبه العليل على كفه وارتحل فى المشوار المصيرى لأرض كليفلاند فى آخر الدنيا المثلجة كى يرقد هناك بعد تخديره تحت الكشافات يشقوا له صدره ويرتقوا ويبدلوا ويوصلوا الشرايين ورجع ليمشى جنب الحيطة، لكن صاحبنا المتمرد على صحته نسى اللهاث وكرشة النفس وعذابات الرئة فرجع من تانى لكليفلاند ليخرجوا له من تانى قلبه فى الهواء بره بهدف تغيير ما جد من عطب فى التوصيلات ويزرعوا له جهاز يرسل إنذارا بالخطر فى حالة إذا ما دقت الجلطة على باب النذير.. وأتى النذير ليخطف من أحضان مصر ابنها أسامة أنور عكاشة الذى كان قد قال على أعتاب سكة اللى يروح فيها مايرجعش بعدما أجريت له أول عملية خطيرة للقلب: «مرضى مرض مهنة الجلوس طويلا للكتابة على الورق.. ساعات ينسى فيها الكاتب نفسه قد تصل إلي10 ساعات، إلى جانب تدخينى الشرس، وتركيزى الشديد الذى رفع ضغط دمى مما أثر بعدها على القلب»..
ولا يكف قلم صاحب المرض عن العطاء الصحى رغم ما يكتبه الألم على صفحة الجسد، «مُدرك أنا أنها أعمار بيد الله وما الخوف إلا من لحظة يسكت فيها القلم وتتوقف الكتابة».. وتتوقف الكتابة ويمضى أبو الأناور فى توقيته المدون باللوح المحفوظ بعد كتابته على صفحات الأهرام عندما استدعاه الشجن إلى منزلق الشعور بالوحدة: «ضى القنديل المتلاشى فى شرفة بعيدة يشع نور باهت مخضر تنفر منه الفراشات.. وفى الشرفة قيثارة مهجورة
وأنفاس تتردد فى صدر يخفق
وفراشة سقطت حرق الضوء جناحها
والرحلة تصل إلى حافة الهجوع
ويدوم السبات طويلا طويلا هذه المرة
وقد آن لك أن تمسح دمعك
لم تكن أبدا وحدك»
لا يا ابن طنطا والسيد البدوى وربيب إسكندرية أبوالعباس وعازف ليالى الحلمية وضمير أبلة حكمت ومؤرخ زيزينيا ومهندس المصراوية.. لا.. لم تكن أبدا وحدك فقد كتبت بنبض قلبك للملايين لتعيش أبدا فى قلوب الملايين.
استقالة وزير
أحمد المليفى.. اسم لأحد وزراء الكويت الذى لم يقبل على ضميره ومسئوليته كوزير للتربية والتعليم العالى الاستمرار فى منصبه الوزارى بعد وفاة عاملين مصريين أثناء أداء عملهما فى بناء مجمع جامعى جديد بالكويت تابعاً لوزارته، فقام بتقديم استقالته المسببة لأمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح الذى قبلها بدوره كموافقة منه على التصرف المحترم لوزيره المحترم.. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فالذاكرة تعود بنا لذكرى وفاة الخمسين طفلا فى حادث أوتوبيس المزلقان، وقاطرة السكة الحديد التى تفحمت بركابها، ومئات المصريين الذين غرقوا فى المعدية و..و..الخ.. حيث يتوجه السيد الوزير المسئول بدم بارد وعين بكسة وقلب ميت لتفقد مكان الحادث والتصوير واستدعاء لجنة لتقصى الحقائق.. وعيش يا حمار.. وأبدًا لم يقدم أى وزير استقالته فى أية وزارة عندنا استشعارًا للحرج، وربما الوحيد الذى استقال بدون سابق إنذار البرادعى بعد أداء مهمته الموكل بها من أولى أمره فى الخارج.. من تأجيل فض رابعة، وتربيط الزيارات المشبوهة داخل الأسوار، وتسفير العملاء قبل ما يطلع النهار، بعدها سافر هو وطار عندما انهارت الخطة فى أن يكون حاكمًا فعليًآ للبلاد يحركه عن بُعد زرار الريموت تاركاً تلامذته وحوارييه فى الهواء الطلق بعد تنويمهم مغناطيسياً وتمويلهم دولارياً بدون ساتر ولا غطاء ليُزج بهم كاشف التسريبات عبدالرحيم على فى صندوقه الأسود!!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.