لم يسمع البريطانيون، من وسائل إعلامهم وسياسييهم، منذ زمن مثل هذه الأوصاف لنتائج أى انتخابات وطنية: تاريخية، زلزال، ثورة، انتفاضة شعبية. انتخابات البرلمان الأوروبى أتاحت للبريطانيين أن يصرخوا بأعلى صوتهم رفضا للعلاقة الحالية بين بلادهم والاتحاد الأوروبى قائلين: كفاية.. نريد التغيير. الصرخة خرجت من الصناديق بالنتائج التالية: حزب استقلال المملكة المتحدة فاز ب 27.5٪ من الأصوات، بزيادة 11 فى المئة عن الانتخابات السابقة ليرتفع عدد نوابه إلى 24 بزيادة 11 عضوا. حزب العمال، قائد المعارضة، حصل على 25 فى المائة من الأصوات بزيادة 9.5 فى المائة ليرتفع عدد نوابه من 13 إلى 20. حزب المحافظين، الشريك الرئيسى فى الائتلاف الحاكم، حصل على 24 فى المائة من الأصوات بخسارة 4 فى المائة، ما أدى إلى انخفاض عدد مقاعده من 26 إلى 19 مقعدا. حزب الديمقراطيين الليبراليين، الشريك الأصغر فى الائتلاف الحاكم، فاز ب 7 فى المائة من الأصوات، ليخسر 7 فى المائة ويتقلص عدد مقاعده من 11 إلى مقعد واحد فقط. وتشير هذه النتائج إلى حقيقة صادمة لبريطانيا وهى أن هذه أول مرة خلال أكثر من 100 عام يفوز فيها حزب غير الاثنين الكبيرين (المحافظون والعمال) بانتخابات وطنية. وعلى عكس ما حدث فى بر أوروبا الرئيسي، فإن هذه النتائج لا تشير إلى صعود نجم اليمين بنفس القوة فى بريطانيا. وأبرز بر هان على هذا هو أن الحزب الوطنى البريطانى، المعروف باتجاهاته اليمينية المتشددة، خسر مقعديه فى البرلمان الأوروبى بسبب تراجع نسبة شعبيته، حسب النتائج، من 5 فى المائة إلى واحد فى المائة فقط. ومع ذلك فإن هذه النتائج يجب أن تزعج الاتحاد الأوروبى لأنها تمنح حزب استقلال المملكة المتحدة تفويضا شعبيا يطلب إجراء استفتاء شعبى بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد. فبرنامج الحزب، سواء فى انتخابات البرلمان الأوروبى أو المحليات (التى حقق فيها أيضا نتائج كبيرة مفاجئة) يتأسس على عداء لسياسات الاتحاد الأوروبى وتأثيرها على بريطانيا، حتى إنه وفقا لأحدث استطلاع للرأي، فإن 60٪ من البريطانيين لا يعلمون أى شىء عن برامج الحزب سوى موقفه المناهض لعضوية بريطانيا فى الاتحاد الأوروبي. بل إن 25 فى المائة من أنصار الحزب نفسه لا يعرفون أى شىء على الإطلاق عن سياسات الحزب الأخرى. وهذا طبيعى. فالحزب تأسس عام 1993 بهدف رئيسي، وحيد آنذاك، وهو مناهضة اتفاقية ماستريخت التى أبرمت عام 1992 لتؤسس للاتحاد الأوروبى بشكله المؤسسى الحالى. فما هى سياسة الحزب تجاه أوروبا؟ يعتبر الحزب أن الاتحاد الأوروبى ليس سوى «ناد» و«مشروع سياسى كبير» تخسر بريطانيا كثيرا، على المستويين الاقتصادى والسياسي، بعضويتها فيه. وبسبب هذه العضوية، تضطر بريطانيا، إلى فتح أبوابها للمهاجرين من دول الاتحاد الفقيرة. وحسب آخر إحصاء رسمى، فإن عدد المهاجرين يبلغ 200 ألف شخص فى آخر سنة. ويحمل الحزب الاتحاد الأوروبى وما يراه تنازلا من جانب أحزاب بريطانيا الثلاثة الرئيسية وتسليمهم سلطات سيادية، مثل تلك المتعلقة بالتحكم فى الهجرة والحدود، لهذا الاتحاد. وبعد نتائج الانتخابات يرى ناجيل فاراج زعيم الحزب إن «حتمية التكامل الأوروبى انتهت»، ويطالب باستفتاء شعبى فورى بشأن بقاء المملكة المتحدة فى الاتحاد. الأرقام أحد أسباب الإحباط. فمؤيدو استمرار بريطانيا فى الاتحاد يقولون إن المنطقة الاقتصادية والسوق الأوروبية الموحدة، التى هى أكبر من حجم السوقين الأمريكية واليابانية مجتمعتين، تستقبل 51 فى المائة من الصادرات البريطانية من السلع والخدمات، ما يحقق 200 مليار جنيه استرلينى سنويا.. وفى المقابل ورغم العلاقة الوثيقة الراسخة بين بريطانيا وأمريكا، فإن السوق الأمريكية لا تستقبل سوى 13 فى المائة من الصادرات البريطانية. ويفترض أن تنعكس أرقام التجارة البريطانية الأوروبية على حالة البطالة ويسهم فى خروج اقتصاد بريطانيا من حالة الركود، ويسهم فى تحسين الخدمات العامة وسد العجز فى الميزانية. لكن الواقع، الذى استغله حزب الاستقلال بسهولة، ينبئ بالعكس، وهو تدفق سكان دول أوروبية أخرى إلى بريطانيا بحثا عن فرص عمل وحياة أفضل، وتراجع مستوى الخدمات، وارتفاع معدلات الديون وتكاليفها. أى أن مغارم العضوية فى الاتحاد الأوروبى باتت أكبر بكثير من مغانمها، ما أعطى قوة دافعة كبيرة للمشككين فى جدوى العلاقة مع الاتحاد الأوروبى بوضعها الحالي. خلاصة الرسالة، كما فهمها الجميع وقبلها كاميرون، هي: لا بد من إعادة النظر فى العلاقة مع الاتحاد الأوروبى لصياغة عقد اجتماعى واقتصادى وسياسى جديد، وطرح مشروع بريطانى لإجراء إصلاحات تأخرت كثيرا لهياكل الاتحاد، ثم بعد كل ذلك، طرح علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبى لاستفتاء الشعب البريطاني. من الآن وحتى الاختبار الحاسم المقبل وهو الانتخابات العامة، أمام كاميرون ومؤيدى سياسته تجاه أوروبا، سنة كاملة إما للنجاح فى إزالة آثار زلزال فاراج وحزبه بالبدء فى مشروعه لإصلاح العلاقة مع أوروبا، أو الإخفاق، وتعريض هذه العلاقة لزلزال أعنف.