يصدر هذا المقال والمواطنون المصريون يواصلون الإدلاء بأصواتهم فى انتخابات رئاسية تكاد نتيجتها أن تكون معروفة سلفا.. فإذا كان ثمة عنوانان عريضان للمنافسة بين المرشحين الرئاسيين فهما «استكمال الثورة» عند صباحى و«الاستقرار» عند السيسي فهذان العنوانان ذ وبصرف النظر عن برامج المرشحين ومنطوق خطابيهما ودعايتهما الانتخابية هما الأكثر تعبيرا عن العنصر الجوهرى المشترك والموحد لكل من كتلتيهما. ولعل أول ما يلفت النظر فى هذا السبيل هو أن كتلة صباحى أكثر انسجاما وتجانسا بكثير من كتلة السيسي، بحيث يمكننا الحديث عن «معسكر صباحى» و«معسكرات السيسي». وهذا بدوره يكشف عن أن مستقبل العملية السياسية فى البلاد لا يتوقف على نتيجة الصراع الانتخابى بين المرشحين الرئاسيين فحسب، وهو ما أظنه قد حسم بالفعل، ولكن أيضا على نتيجة الصراع على السيسى نفسه، وقد اجتمعت حوله كتل ومصالح وميول وتوقعات غير متجانسة إلى حد كبير، بل ولعل بعضها شديدة التنافر. ولعلنا نضيف أن نتيجة الصراعين لن تتوقف على موازين القوى فيما بين «معسكرات» السيسى وحدها، ولكن وربما فى المحل الأول على تماسك وامكانات توسع معسكر «استكمال الثورة»، وعلى قدرته على التأثير فى الساحة السياسية. معسكر صباحى فى حقيقة الأمر أضيق بشكل ملحوظ من كتلته، وهى التى انقسمت ما بين ممتنعين ومقاطعين ومبطلين ومحبطين ويائسين، بل ومهاجرين (مؤقتين أو دائمين) لمعسكر المشير، وذلك بالمقارنة مع معسكرات السيسى وهى أوسع كثيرا مما يمكن للرئيس المحتمل أن يحتمل طويلا، ويستحيل تصور مواصلتها أو الحفاظ عليها لزمن أبعد كثيرا من انتهاء الانتخابات الرئاسية. معسكر صباحى جزء من كتلة «استكمال الثورة»، وركيزتها عشرات وربما مئات الآلاف من الشباب شكلوا وقود الثورة المصرية وقيادتها الميدانية فى موجاتها المتتالية من 25 يناير 2011 وحتى 30 يونيو 2013، وأكاد أجزم أنه أيا ما كان تقدير الحجم الفعلى لهذه الكتلة، وبصرف النظر عن حظوظها الانتخابية، وبرغم كل ما تعرضت وتتعرض له من حملات تشويه، فانها كتلة عصية على التطويع أو الاخضاع. هؤلاء شباب جرأوا على اقتحام عنان السماء، والحرية التى رفعوا شعارها عاليا وتحت الرصاص فى ميادين وشوارع مصر لأكثر من عامين ونصف عام ليست مجرد طموح سياسى وانما هى خيار حياة، دونها الموت. لا جدال مع ذلك فى أن «كتلة استعادة الاستقرار» هى الأكثر اتساعا بشكل ساحق بين المصريين فى اللحظة الحالية، ومنذ أطلقوا موجاتهم الثورية الكبرى فى 30 يونيو 2013. ولهذا الاتساع مبرراته القوية، وليس مجرد «غسيل المخ» على أيدى أجهزة إعلام محمومة، فنحن إزاء ثورة محبطة على كل الأصعدة، اختطفت وأعيد اختطافها المرة تلو الأخري، تحقق النجاحات المبهرة فى تسديد الضربات القاصمة لهذا الحلف الحاكم أو ذاك، وتعجز بشكل متواصل عن أن تطرح نفسها بديلا أو حتى طرفا أصيلا فيما يترتب على تلك الضربات من إعادة صياغة لتركيبة السلطة فى البلاد. الإرهاق، بل والكفر بالثورة وبالأمل فى التغيير، نتيجة تكاد تكون محتمة لدى قسم متزايد الاتساع من أبناء الشعب، حيث السياق هو إخفاق يبدو مستديما فى تحقيق ولو القسط القليل من مطالب الثورة فى موازاة مع اضطرابات وصدامات وفوضى متواصلة، وانهيار فى الخدمات وافتقاد للأمن وحالة اقتصادية تقترب من الحضيض أو تلامسه. أضف إلى ذلك الآثار بعيدة المدى لرضة أو «تروما» حكم الإخوان، وقد كتبت سابقا أن أحدا لم يكن ليتوقع حدة وعمق الرفض الشعبى المصرى لمشروع حكم دينى بدا طامحا إلي، وقادرا على المكوث على صدر الأمة إلى يوم الدين. وغنى عن الذكر أن جنون «المقاومة» الإخوانية، وجلها الاعاقة والتخريب، وتحالفهم الضمنى أو الصريح مع الإرهاب، قد لعبا دورا بالغ الأثرفى تكريس التروما ومفاقمة حدتها وعمقها. فاستعادة الاستقرار عند الكثيرين تساوى انهاء ناجز للصراع مع الإخوان والإرهاب ذ مهما يكن الثمن. ولكن يغيب عن الكثيرين أن تحت سطح «استعادة الاستقرار» مباشرة تقبع كتل ورؤى ومصالح وطموحات شديدة التناقض والتنافر. التناقض الأهم فى «معسكرات» المشير هو بين من ينتخبون السيسى لأنهم يرونه أداة ووسيلة لدفن الثورة وبين من ينتخبونه لأنهم يرون فيه أداة لتحقيق ولو بعض من استحقاقات الثورة, من ناحية أخري. معسكرات السيسى الراهنة تشمل من يريدون بناء شرعية جديدة للرئيس الجديد، ومعنيين بالتالى بمكون أو مشروع «هيمنة» سياسية وأيديولجية ينطوى بالضرورة على استجابة ما لاستحقاقات الثورة، ومن يريدون صناعته ديكتاتورا. الانتخابات الرئاسية الجارية - فى رأيى - ليست نهاية المطاف. لمزيد من مقالات هانى شكرالله