ساعات قليلة... ويختار أهل مصر رئيسا للجمهورية ليصبح الرئيس السادس، وليصبح بحسب وثائق قصر الحكم العالى الشهير بقصر عابدين هو الحاكم الثانى عشر للبلاد منذ إنشائه. وإذا كان قصر الاتحادية قد صار فى الأعوام الأخيرة مقر الرئاسة الرسمى يظل قصر عابدين بالحاضر والتاريخ مرتبطا برئيس مصر. فقصر عابدين مقر للحكم منذ زمن الخديو إسماعيل، وحسب رواية شيخ المعماريين د. سيد كريم كان أمنية من الأمنيات السبع للخديو إسماعيل الذى حلم بأن تصبح القاهرة قطعة من باريس. كانت أولى الأمنيات حديقة تشبه حديقة لوكسمبورج فصممت حديقة الازبكية وثانيتها مسرح يشبه مسرح «الكوميدي فرانسيز» في العتبة الخضراء، ثم شق النيل وسط القاهرة كما هو الحال بالنسبة لنهر السين، وأن تكون له حديقة فخيمة هى حديقة الاورمان. وان يصمم ميدان يشبه ميدان «اتوال» أو النجمة، فولد ميدان الاسماعيلية الذى عرف فيما بعد بميدان التحرير، وأن يكون له قصر ليس له مثيل وهو قصر عابدين. صحيح أن القصر كان موجودا من قبل كمنزل خاص بعابدين بك أمير اللواء, الا أن الخديو اشتراه و منزلا آخر يجاوره، واستبدل أرض وقف عابدين بك بخمسة وأربعين فدانا فى أحد الأقاليم ليولد قصر أسطوري يحمل نفس الاسم. ورغم حلم الخديو باستقبال ضيوفه بهذا القصر أثناء مراسم افتتاح قناة السويس فإن هذه الأمنية لم تتحقق، فلم ينته بناء القصر - كما يقول كتاب قصر عابدين الصادر عن مركز توثيق التراث الحضارى والطبيعى التابع لمكتبة الاسكندرية - قبل نوفمبر عام 1896 موعد افتتاح القناة، رغم أن الخديو وضع كل الامكانات تحت تصرف لوان روسو باشا المهندس الفرنسى لتصل مساحة سراي عابدين عام 1873 إلى 90,127.95 متر مربع بتكلفة بلغت مائة ألف جنيه ذهبا. وهكذا ولد القصر فى طابقين, وضم السلاملك الذى يستقبل التشريفات والحرملك الذى تسكنه العائلة وانفصل المطبخ حتى لا يسبب الحرائق، وأنشئت الأسوار العالية والبوابات المتعددة و أشهرها بوابة باريس التى أطلق عليها هذا الاسم تحية لأوجينى ملكة فرنسا. وبدأ فى استقبال أول زائريه عام 1872 حتى إذا ما جاء ديسمبر بدأ الاستعداد لاحتفال الخديو بزفاف أنجاله توفيق وفاطمة وحسين فى القصر زفافا أسطوريا أصبح مثارا لحواديت أولاد البلد. يبدو أن الخديو فى نهاية القصة كان فى حيرة من أمره, فلمن يهدى القصر؟ لابنائه؟ أم لزوجاته كما حدث بعدها بثلاثة أعوام عندما أهدى قصر عابدين والرملة والجيزة بكامل مقتنياتها لزوجاته، الا أن هذا القرار قد راجعته المحكمة بعد نفى إسماعيل حين هبت رياح الديون العاتية التى أثقلت مصر فأقتلعته وحكمت بعدم أحقية زوجاته وحدهن بامتلاك القصر. وحتى ينتهى الجدل أصدر الخديو توفيق مرسوما خديويا فى ديسمبر 1881 بأن تؤول ملكية القصور الثلاثة إلى مصر وبجواز استخدام الأسرة الحاكمة لها دون امتلاكها. يبدو أن ذلك العام لم يحمل رياح التغيير إلى قصرعابدين فقط بل إلى كل بر مصر المحروسة عندما شهد ميدان عابدين ثورة عرابى وأولى المطالب الوطنية للجيش المصرى. وبعدها تدافعت الأحداث ودخل الانجليز مصرواستقروا لما يقرب العشر سنوات ونسى أهل القصر ما كان حتى استيقظوا ذات صباح على اشتعال حريق قضى على جناح الحرملك كاملا، الا أنه وكما يقول المصريون رب ضارة نافعة، فقد استطاع القصر أن يلفت الانظار من جديد. ويتقرر تكوين لجنة لإدارة شئون القصر مع تولى الخديو عباس حلمى الثانى الحكم لتعلن ان الترميمات اللازمة تقدر ب 172 ألف جنيه، وهو مبلغ كبير بلا شك فتقرر الاستعاضة عنه بانفاق شهرى بلغت قيمته 8480 جنيها. ويستمر قصر عابدين مقرا للزيارت الرسمية، وباعتلاء الملك فؤاد العرش تصبح حدائق عابدين أكبر وأجمل الحدائق بالاضافة إلى الكثير من الملحقات قبيل تولى فاروق. وبعدها بسنوات تحاصر الدبابات البريطانية قصر عابدين ثم تطالب باقالة الملك ولكن هذا لا يحدث فيستمر فاروق ملكا حتى عام 1952 . تتوالى الأيام وبين يوم حلو و يوم مر لا تتوقف حكايات القصر. فمن بعد ملك يأتى رئيس، ومن بعد معمارى أوروبى يأتى أولاد البلد المصريون. وداخل الجدران يجلس من يجلس و يعيش من يعيش ويموت من يموت. وهم فى النهاية قصص لا يعلمها الا الله. أما ما يقوله التاريخ فهو حديث ينقل عن حديث. ولكن تظل المهمة الكبرى التى تعيش داخل هذه الجدران حكم مصر... وهى مهمة ينتظرها كل المصريين.