قبل وفاة المفكر الأصيل والمبدع المتفرد حسين أمين الذي له في عنقي دين كبير، كنت ملازما للفراش لمدة طويلة عزفت فيها عن قراءة الصحف. وحين أخذت في التعافي بدأت أتصفح بعض أبواب جريدة «الأهرام» فقط؛ لأفاجأ فيها بمقال جلال أمين الحزين والمفجع في رثاء أخيه. وقد رأيت أن خير ما أقدمه في هذه المناسبة، تعريف بأسلوب حسين أمين من جهة، وتذكيرلشباب المثقفين بوالده أحمد أمين الذي كان أحد أعلام النهضة المصرية والعربية، والذي قدم أول تأريخ منهجي للحياة العقلية في الإسلام في سلسلة كتبه «فجر الإسلام» و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام»، وغيرها. وترجع معرفتي بالمرحوم حسين إلى أواخرعام 1980 ، حين كان المستشرق البريطاني الكبير مارسدن جونز وكاتب هذه السطور بصدد إصدار الكتاب الرابع من سلسلة « أعلام الأدب المعاصر في مصر». وكان «العلم» في تلك المرة هوالدكتورأحمد أمين. ومن حسن حظنا، وحظ هذا المجلد، أن كان لصاحبه أبناء مثقفون بررة بأبيهم . كانوا يتسارعون لتلبية ما يتطلبه المجلد. الزميل العزيز جلال، قام بمراجعة الببليوجرافيا وعاونه في ذلك المرحوم حافظ. أما حسين فكان المفاجاة؛ فحين سألت جلال أن يكتب نبذة عن حياة الوالد في بيته وبين أصدقائه، أدهشني جوابه : «الأقدرعلى كتابتها مني هو أخي حسين». ولم أكن قد سمعت بالمرحوم حسين حتى تلك اللحظة. ثم وصلت صفحات حسين من بون، مقر إقامته، وكان وزيرا مفوضا لمصر في ألمانيا«الغربية». ولاتسل عن دهشتي أنا وجونز بهذا الإبداع الأصيل، الأقرب إلى مناهج الغربيين في جرأتهم وصراحتهم في كتابة التراجم، والذي ينضح بالصدق والموضوعية والسخرية الحنون الشائقة، وكمّ المعلومات الكاشفة واستيفاء الموضوع من كافة جوانبه. فقد أبرزت صفحات حسين القليلة عن الأديب الكبيرفي بيته ومع أصدقائه أكثر مما يتوقعه القارئ الآن من كتاب كامل. تبدأ الصفحات بتعجب حسين من بساطة والده في كل شيء، المأكل والمسكن والمشرب، إلا التدخين فكان يمارسه بشراهة، والبساطة أيضا في استخدامه وسائل النقل العام بدلا من اقتناء سيارة، لكنه كان شديد السخاء مع الفقراء من أهله ومع الباعة في الأسواق. وتنعكس البساطة على كتابته وأسلوبه، فهو لايعرف تأنقا أو حذلقة، ولا يسعى إلا إلى الإفهام، «غيرأنه مع استنكاره للتأنق أو الحذلقة في كتابات غيره، وتكرُّر وصفه لأسلوب طه حسين مثلا بغزل البنات، «كان يدرك أن أسلوبه أقل من أن يوصف بالأسلوب الأدبي الرفيع.» تأمل الموضوعية هنا وبداية ذكر المسكوت عنه، الذي يتجنبه معظم من يكتبون عن ذويهم، لكنه مستخدم هنا بكثرة، وسنقتبس لدى نهاية المقال النموذجين الأشد جرأة في ذكر «المسكوت عنه»، وهما قراءاته وتعامله العائلِي. أما أصدقاء أحمد أمين فكانوا من علية القوم يتصدرهم في المحبة عبد الرزاق السنهوري أما الأدباء من أمثال العقاد والمازني وهيكل فكان على علاقة طيبة بهم وإن لم يتزاور معهم. لكنه كان يلتقي بتوفيق الحكيم في اجتماعات لجنة التأليف والترجمة والنشر وفي مقهى بالإسكندرية صيفا. أما علاقته بطه حسين فبدأت منذ الشباب وكان كلاهما «يعشق صحبة الآخر. أما موقفه من الإسلام السياسي، المتمثل آنئذ في «جماعة الإخوان المسلمين» فكان الرفض المطلق. ويذكر حسين أن الشيخ حسن البنا نشر « في جريدته خطابا مفتوحا موجها (لوالده) يقول له فيه إن مكانا في الصف الأول من جماعة الإخوان المسلمين في انتظاره. غير أنه لم يستجب للعرض ولا عُنِي بأن يرد.» كانت قراءاته كلها تقريبا في الإسلاميات. «لايكاد أحد يضاهيه في معارفه الإسلامية وإلمامه بتاريخ حضارة الإسلام وعلومه. وما عدا ذلك فثمة خلل خطير»؛ فهو لم يقرأ في الأدب العربي، قديمه وحديثه شيئا يذكر.» وهو لم يقرأ في حياته (كما يعتقد حسين) «رواية واحدة لتولستوي ودستويفسكي أو مسرحية لموليير»، ولايعرف شيئا عن الموسيقى الغربية والفنون والمتاحف، وحتى معرفته بالتاريخ انحصرت في التاريخ الإسلامي، ولم تشمل حتى تاريخ مصر القديم. أفليست صفحات حسين هذه أفضل ما كتب فى سلسلة «الأعلام» عن حياة أديب ولا أستثنى من ذلك ما كتبته أنا عن حياة العقاد فى كتابى عنه، وما كتبته أنا وجونز فى كتابنا عن طه حسين. أولا تعد هذه الصفحات نوعا جديدامن الإبداع متمثلا في كتابة هذه الترجمة البديعة، ومن النقد الذي يصور للموهوبين كيف تكتب هذه الترجمة ؟ علما بأن ما ذكرهنا يشكّل ثلث ما في الصفحات من ألوان المعرفة فحسب. لمزيد من مقالات د.حمدى السكوت