منذ أكثر من شهر وتحديدا في منتصف نوفمبر الماضي نشرت صفحة تراث وحضارة محاضرة مجهولة لعميد الأدب العربي طه حسين واعتبرناها وقتها انفرادا خاصا بالاهرام بالحصول علي نص هذه المحاضرة بعد أكثر من خمسين عاما.. ووقتها كانت خلاصة ما قال طه حسين هو أن الفن لا يتحقق الا بشرطين الحرية والثقافة الواسعة العميقة في الحياة والفنون. ومرة أخري نعود وبنفس المنهج ننشر الخطابات الخاصة بالكاتب المسرحي الكبير الفريد فرج التي أمدنا بها الباحث نبيل فرج, الا انه في حالة كاتبنا يقدم هذه الخطابات والاوراق الخاصة ليس بوصفه باحثا أدبيا كما التقينا به من قبل في هذه الصفحة ولكن بوصفه شقيقا للكاتب المسرحي الكبير ومالك للكثير من خزائن أسراراه. ونذكر الناس بألفريد فرج الكاتب الكبير الذي ولد في عام1929 وعاش سنواته الاولي في الاسكندرية ودرس الادب الانجليزي وانخرط في الحركات السياسية فتأثر وأثر في الحياة في بر مصر المحروسة. فكانت له مسرحياته التي دوي لها التصفيق في مسرح الستينات الذي شهد أكبر حركة ثقافية مسرحية في تاريخ مصر, فمازال الناس يتذكرونه علي سبيل المثال لا الحصر ب علي جناح التبريزي وتابعه قفة التي كان الراحل الكبير عبد المنعم ابراهيم قد أعلن نفسه في هذه المسرحية غولا للمسرح, وحلاق بغداد, والزير سالم وحتي غراميات عطوة أبو مطوة التي ظهرت علي المسرح في التسعينات ووقتها اندهش الناس لهذا العنوان الذي يقترب من الشكل التجاري. ولكنها تجربة الفنان الذي عاش في مصر رغم كونه كمعظم المثقفين العرب عاش في لندن كما كانت له تجربة بالجزائر. المهم اننا نفتح الطريق في هذه الخطابات التي تبدو خطابات عادية ولكنها تبدو في صورة ارشادية من أخ أكبر إلي أخر أصغر يحاول أن يدخل طريق الكتابة..وتذكرني بتجربة الشاعر الايرلندي وليام بتلر ييتس عندما كتب يتذكر تاريخه بعد عشرين عاما من اشتغاله بمهنة الشاعر. ونتمني من بعد طه حسين وألفريد فرج أن تكون هذه الصفحة مجالا توثيقيا لتراث كبار الأدباء والعلماء في بر مصر المحروسة.. فهل من مجيب!.
تعد رسائل الأدباء كما تعد سيرهم الذاتية ويومياتهم واعترافاتهم, وثائق أدبية, يقبل عليها القراء ويحتفل بها النقاد. وكثيرا ما تكون هذه الرسائل مرآة مصقولة ليس فقط لشخصية الكاتب قناعاته, وانما للواقع المعاصر أيضا الذي كتب فيه. وفي الذكري السادسة علي رحيل أخي الفريد فرج(1929-2005) التي توافق الثالث من ديسمبر أقدم مقتطفات من رسائله الخاصة التي كتبها ردا علي رسائلي إليه. ويرجع تاريخ هذه الرسائل إلي سنة1958, وتتمثل أهميتها في أنها تعرض جوانب غير معروفة في حياة كاتب قدر له أن يكون من رموز الثقافة الوطنية في بلاده. تكشف هذه الجوانب عن ملامح في أسلوبه وخلقه وعاداته في الكتابة. كما تكشف بعض أفكاره الانسانية التي عبر عنها في أدبه, رغم المصاعب والمحن التي عاني منها, بسبب هذه الأفكار, وبسبب ارتباطاته بأصحاب الرأي الحر من المثقفين ورفاق القلم الذين تضيق بهم السلطة. ويمكن أن أذكر من هذه المصاعب والمحن الفصل من الوظيفة, والاعتقال بالشبهة بلا اتهام أو محاكمة, ووقف مسرحياته وهي في قمة نجاحها, وحظر ذكر اسمه في الصحافة والاعلام, وعداء أنصاف المثقفين له, الذين نظروا إليه وإلي كتاباته النقدية كغريم لا قبل لهم به, يريد أن يغير الدنيا, فأرادوا اقصائه من الساحة, لأنها لن تتسع لهم وله في آن واحد. وقيل هذا كله وبعده الغربة التي اضطر إليها بإرادته, تحت تأثير هذه الأوضاع التي كانت تهدد مصر كلها. ومع أن هذه الغربة التي بدأت في1973 أتاحت له أن يتعرف علي تجارب فنية محدثة, وكان يلقي في كل الأقطار التي جابها من يرحب به ويقدم له كرم الضيافة, الا انه لم يكن قمة ما يعوضه أو يخفف عنه شعوره الحاد بالغربة, بعيدا عن وطنه وخلانه ومسرحه وكتبه وأحلامه المرتبطة بهذا الوطن. وقليل من يعرف أن الفريد فرج كتب في سن باكرة الشعر العمودي والحر. ولكنه لم ينشر منه غير قصيدة واحدة في احدي المجلات البيروتية, وعدة قصائد القاها في الاسكندرية في الاحتفالات السنوية لكلية الآداب. ذلك ان المسرح بجدليته وسحره اجتذبه بشدة, فلم يجد مفرا من أن ينصرف عن الشعرالذي تفتحت موهبته عليه, ربما لادراكه ان الشعرلن يستوعب القضايا المركبة المتصلة بالحوار الاجتماعي, انما ظل الشعر ملازما له في كل انتاجه ملازمة الفكر والالهام لهذا لانتاج الذي جمع بين ثقافة الشرق القديمة وثقافة الغرب الحديثة, أو بين الفلكلور والفنون الأوروبية, وبين القيم القومية والقيم الانسانية. وحرصا منه علي أن يضع للنقاد والباحثين ما يساعدهم علي قراءة أعماله قراءة صحيحة, أعد قبل رحيله أشعاره لنشرها في ديوان. وكتب له مقدمة طويلة غير أن الديوان فقد, وفقدت معه مخطوطاته وترجماته وأوراقه غير المكتملة ومقتنياته ومكتبته. ولم تستطع وزارة الثقافة التي أوصي لها بتراثه أن تنقذ هذا التراث من الضياع. ولألفريد فرج أكثر من خمسين كتاب في المسرح والقصة والرواية والنقد والترجمة أعيد طبع بعضه مرات عديدة, بلغت بالنسبة لمسرحية حلاق بغداد سبع طبعات. كما أن عددا كبيرا من الكتابات الادبية المتناثرة في الدوريات الصحفية لم تجمع في كتب, وأهمها بلا شك مقالاته الأسبوعية المنتظمة التي نشرها في الأهرام في السنين العشر الأخيرة من حياته. وهذه هي المقتطفات المختارة من رسائله نقلا عن مخطوطاتها الأصلية. معني الأدب عزيزي نبيل: أكتب لك وأنا محل نزاع شديد بين شتي الانفعالات والعواطف المتضاربة. طبعا لقد باعدت بيننا الظروف بغير عدل, وبغير وجه حق بحيث أصبحنا نختلف حول الأفكار الأقل أهمية لاختلاف الرأي, ولكن اختلافا لا ينطوي الا علي تفاوت في تقدير الظروف. الحمد لله أولا علي اننا متفقان علي الأفكار الأكثر أهمية, وهي معني الأدب ورسالته وشكله وفحواه وموقف الانسان وفضائله ورذائله وماضيه ومستقبله وأهمية اللغة والقيم الجمالية.. الخ الخ وهو قدر من الاتفاق يتوج علاقتنا الأخوية الوثيقة, ويصنع ذلك التفاهم والحب والثقة التي نتبادلها. لا تستهن بوزن هذا الاتفاق, فهو اتفاق علي الأهم. ومع ذلك فان ظروفا عملية للحياة تفرض علينا تباعدا جائرا لا يتيح لنا التفاهم المباشر المتصل في غير أهم الأشياء..فترانا لذلك نختلف ولكنه اختلاف هين علي أية حال, ومعلق بهذه الظروف الطارئة التي لن تدوم طويلا. هذه الظروف أولا.. هي التي ترغمنا علي قلة الاتصال سواء بالكتابة أو باللقاء, وهي التي تعوقنا عن الاحاطة بكل شئون الآخر. الفريد الأسلوب لا يمكن أن أغفل خطابك الذي وصلني منذ أسبوع. وقد لاحظت فيه بلاغة بليغة وقد طابت لي بلاغتك, ولكن حذار من الحذلقة, أكتب كجوركي الجملة البسيطة القصيرة التي نوهت عنها أنت في خطابك, ولا تفتنك عن نفسك فصاحة الرافعي الموغلة..أدرسها فحسب, فاننا لنشتهي أن نبلغ أسلوبا متحررا من القوالب البلاغية السالفة.. والا يوقعنا ذلك في ابتداع قوالب لغوية جديدة. إننا إذا فعلنا فكأننا نعزل ملكا عن عرشه لنضع محله ملكا. في حين اننا لم نعزل ملكا عن عرشه الا لقلب نظام الحكم الملكي المتوارث.. فهمت؟ ينبغي للأسلوب العصري أن يكون حرا حرية واسعة, ومتنوعا تنوعا واسعا. لذلك فأخطر ما يمكن أن ننحرف إليه: القوالب البلاغية, والحذلقة. فحذار وها أنت ذا تري اننا مكلفون بالمشي علي صراط مستقيم, علي حبل مشدود.. عن يميننا تهلكة, وعن يسارنا تهلكة.. عن يميننا القيود الأسلوبية السالفة, وعن يسارنا السوقية والابتذال والسطحية وفساد الأسلوب, وعلينا أن نتقي هذا وذاك, وأن نحرص علي نصاعة أسلوبنا وبساطته وإيجازه وصدقه وجماله في نفس الوقت. مهمة شاقة. الفريد الصحافة والثقافة أنت لم تتمرس بالصحافة بعد, ولا أرجو أن تتمرس بها. فما نكتبه لمجلة كذا لا يصلح لمجلة كيت. وما تكتبه في نفس الصحيفة لصفحة كذا لا يصلح لصفحة كيت..الخ. لقد عودتنا الكتابة في الصحف أن نلاحق الأحداث, وأن تكون هذه الملاحقة هي المسوغ لما نكتب. ان ظهور كتاب في السوق حدث يدعو للكتابة عنه, وظهور فيلم أو مسرحية..الخ. وهذا طبعا يقتصر علي الكتابة للصحف والمجلات. أما الكتابة للدرس والتحليل بلا مسوغ غير الاضافة للثقافة والتنوير والنقاش فمحلها المجلة الأدبية لا غير أو الكتاب ولعلي مخطئ. فالعمل في الصحافة ليس عملي ولا اختصاصي وأنا أعول فيه علي رأي أصحابه والمختصين فيه. وقد كانوا دائما ينفرون من الكتابات النظرية العميقة, ويفضلون عليها الملاحقة الخبرية والتعليق. وقد وطنت نفسي علي أن الكتابة النظرية البحت ليس مجالها علي الأقل عندهم فصرت أحتفظبها أفكارا أو اسكتشات في درج مكتبي أنتظر الفرصة لاصدارها في كتاب. الفريد التأليف والنقد اني, ولا غرور, لست أقل قدرا إجتماعيا من وزير أو أمير, فاني ككاتب ملحوظ, وموجه سياسي وثقافي( بارز كما لا يمكن أن يخفاكم), لا يزيدني شرفا أبدا أن أتعلق بأذيال غيري. أما أكتب افتتاحية الجمهوريةس الأدب والفكر, واحدا من رواد الثقافة الجديدة وصفهم الأول يشغله ناس يعدون علي أصابع يد واحدة. كما يعتبرني الناس المشتغلين بالفنون أحسن من يفهم حرفة التأليف والاخراج والنقد المسرحي. الفريد الكتابة والتفكير أمنيتي أن أكف عن هذا التدبيج الطويل الممل للمقالات قصارها وطوالها, ليتسني لي من الوقت ما أستطيع فيه أن أفكر ساعة أو لحظة, أفكر.. فان صناعتنا ينبغي أن تكون التفكير لا الكتابة, الكتابة ليست صنعتنا.. انها مجرد عملية تدوين.. و في الدول المتحضرة لا يطلبون إلي الأديب أن يكتب بل يطلبون منه أن يفكر فحسب, أن يفكر أولا.. و لذا فهم يغدقون عليه المال سواء كتب أو لم يكتب..أجرا علي فكره, فانهم ليعلمون أنه يفكر طيلة الوقت علي أي حال, سواء أكتب أم لم يكتب. لذلك أكره الكتابة أنا. وأتصور انها تتجرد من خصال الهواية والنشاط العفوي الطبيعي, وتكتسي بقيود التكليف المستبد. وهي بذلك تفقد عنصر الحيوية والنشاط والتجدد, وتفقدني أنا نفس العناصر, ويتسلل إلي صدري من جراء ذلك ضيق بها, وقرف ونفور.. ومع ذلك فانها كالمصير المحتوم, وكالوظيفة الفسيولوجية. ونحن نكتب كما نتنفس ونجوع ونتعب. الفريد الصدق والكذب ز: من القلب. وهو قول حكيم لو تأملت معناه. فالناس تكذب من خبث قلوبها, وامتلائها بالضغينة أو الخوف, والناس تدعو للسلام أو الجريمة أيضا من قلوبها.. والناس تصح جسدا وتنعم بالحياة الرخية لأنها تريد ذلك بقلوبها. الفريد الشعر والنثر لا أري وجها للغرابة في أن يجيد كاتب كتابة الشعر والنثر. ولكن ما يبدو غريبا بحق, وإن كانت الشواهد الكثيرة تضعه في موضوع الشئ العادي هو أن يجيد رجل الشعر والطب, أو الأدب والفلك, أو يكون من علماء التاريخ المعدودين وأدبائه المعدودين في نفس الوقت.. وعندك مئات الأمثلة علي هذا, لا يحضرني الآن أكثرها, ولكني أضرب مثلا بعمر الخيام والفارابي وجيته وميلتون وليوناردو دافنشي..الخ. أما الذين كتبوا في مختلف فروع الأدب فعندك هنا في مصر الشرقاوي الشاعر والروائي صاحب القصة القصيرة الناصعة, وعندك صلاح جاهين الشاعر الرسام, ملحوظة نسيت الحكيم الروائي وكاتب المسرح. وعندك في الغرب أراجون الشاعر الروائي, واندريه جيد الروائي كاتب المسرحية..وغيرهم وغيرهم. صحيح أن العصر متجه للتخصص. ولكن كيف يتخصص امرء تلح عليه نزعة الكتابة في عدة أشكال ؟ ولعل بعض الكتاب يجربون أنفسهم في كل مجال حتي يستقر بهم الأمر في النهاية علي شكل أدبي يتخصصون فيه. وقد جرب تولستوي نفسه في المسرح ثم كف عنه, وفعل مثل ذلك جوركي. وأذكر توماس هاردي وهو أديب روائي انجليزي أوصيك به, أكتشف, أو بالاحري أعلن انه أكتشف أنه ضيع وقته في الروايات, وانه كان ينبغي أن يتوفر للشعر منذ شبابه الأول... وبهذا الاعلان انقلب من روائي إلي شاعر واعتذر للقراء عن غثاثة رواياته ووعدهم بشعر جيد. ولعل وجه الغرابة في ذلك انه كان روائيا من الصف الأول, فأصبح شاعرا في الصف الأول كذلك... ولكن الأعجب والأدعي للذهول انه قام بهذا الانقلاب ليبدأ حياته الأدبية من جديد, شاعرا, وكان في سن السبعين!! الفريد في سبيل الحياة اننا نحن الادباء, إذا كنا نكتب في سبيل الحياة, لا نصبح صادقين أمام أنفسنا وأمام من نكتب لهم الا إذا كنا علي إيمان حقيقي بالحياة...نحبها, ونقبل علي مرحها وعلي الصحة فهي مركبنا إليها. لقد مضي عهد كان فيه الكتاب ينظرون في تعقيد الحياة, والأحزان التي تعمرها فيصيبهم الفزع, وينزوون في وحدة قاسية يجترون آلامهم ويسبحون في تهاويمهم, ويعلنون الزهد فيها, ويعتصمون بعزلتهم...أولئك كانوا رومانسيين, عاشوا منذ أكثر من قرن! أما اليوم فالعصر غير العصر. وإذا كنت أنت قد أمسكت بالقلم في النصف الثاني من القرن العشرين لتكتب, فلا مفر لك من أن تكون كاتبا واقعيا. والواقعي لا يعتصم بعزلة, وانه ليدافع عن الحياة من حبه لها وإقباله عليها( لا من زهده طبعا!) وانه ليؤمن بالصحة والمرح أيضا, ويؤمن بمخالطة الناس ومعاشرتهم. الفريد فرج