هنا القاهرة...دخل الفنان أحمد سالم التاريخ من أوسع أبوابه بهذه الكلمة الافتتاحية للإذاعة المصرية التى أستمع لها الناس لأول مرة فى الساعة الخامسة والنصف مساء يوم الخميس الواحد والثلاثين من مايو عام 1934. والإذاعة التى تعتبر واحدة من علامات التنوير فى تاريخ مصر المحروسة لم تكن لتنطلق الا بعد العديد من محاولات الهروب من ملاحقات الاذاعات الأهلية والتجارية التى كادت أن تشعل البيت المصرى منذ منتصف العشرينات وتسبب خصومات بين أهله بعد أن وجدوا فى الكثير من اعلاناتها وتعليقاتها خروجا عن النص المحافظ الذى يألفه المجتمع. ولهذا لم يكن هناك سبيل للهروب من هذه الورطة الا بتعديل دفة الأمور لصالح الحكومة المصرية بالاتفاق مع شركة ماركونى بموجب طلب تقدمت به وزارة المواصلات لمجلس الوزراء فى بداية الثلاثينات.
وبهذه الطريقة انتهى آخر بث إذاعى عرفته هذه الاذاعات التى حملت اسم فاروق و هليوبولس وفوزية ولويس قبلها بزمن قصير جدا لتفسح الطريق أمام صوت مصر المتحضرة. ومنذ اليوم الأول تجمعت عدة شخصيات يجمع بينهم فن الالقاء والرسالة والصوت الحسن ومنهم أحمد سالم وهو لمن لا يعرفه أحد ألغاز السينما المصرية وقصة تستحق أن تروى. فقد ولد لأسرة ثرية فى أبى كبير الشرقية وكان منذ فتح عينيه على الحياة صاحب مغامرات أشهرها سفره إلى إنجلترا لدراسة الهندسة وعودته إلى القاهرة طيارا يقود طائرته بنفسه. فقد كانت الحياة بالنسبة له تشبه البحر الهائج المفتوح لا يعرف لها بداية أو نهاية. فعمل بالتمثيل وبنى استوديو مصر برعاية طلعت حرب باشا وأنتج الكثير من أفلامه.وعرف عنه انه طائر لا يريد أن يستقر طويلا على أى أرض ولهذا تعددت وظائفه ومغامراته وحتى زيجاته .
أما الشيخ محمد رفعت فقد كان صاحب التلاوة الافتتاحية لهذه الاذاعة ليحسن ظن المستمع بهذا البديل الذى ترعاه الحكومة المصرية. وكانت سورة الفتح هى أول سورة من القرآن الكريم لأول مقرئ يجلس أمام ميكرفون الإذاعة، ولم يفعلها الا بعد حصوله على فتوى من الشيخ الأحمدى الظواهرى شيخ الأزهر الشريف وقتها بجواز القراءة فى هذا الجهازالعجيب. ولا أحد يعلم حقيقة تخوف الشيخ محمد رفعت فهل خشى ان يكون الأمر بدعة من الأصوب أن نتجنبها؟ المهم ان هذه التسجيلات التى تحفظها الاذاعة ربما كانت فرصتنا الوحيدة للتعرف على صوت قيثارة السماء الذى يقال ان صوته قبل زماننا كان أقوى وأنقى ولم يصلنا منه الا أقل القليل. وها هى الآنسة أم كلثوم بكل عظمتها تقف على استحياء أمام الميكروفون لتشدو بوصلتين غنائيتين فى صورة حفلة مذاعة وقد بدت يومها رغم ثقتها فى صورة طالب يتقدم لإمتحان صعب أمام لجنة صعبة. ولا عجب فى هذه المشاعر المتضاربة لكوكب الشرق، فبقدر ما كان الامتحان صعبا لأن اللجنة كانت بر مصر المحروسة كلها بقدر ما ستجنى أم كلثوم من نجاح، ويكفى أن الجميع يستمع لفنها من أقصى الصعيد إلى الاسكندرية، ورأس البر التى كانت عشقها الأول. ولم تكن أم كلثوم وحدها بالطبع. فنفس التجربة والمشاعر عاشها منافسها الموسيقار محمد عبد الوهاب الذى كان ينافسها على مقعد الريادة الغنائية فى مصر. ومعهما كان المطرب صالح عبد الحى تلميذ عبده الحامولى وسلامة حجازى يعرض موهبته هو الآخر بعد أن وجد مراده فى الاذاعة الحكومية وقد كان من قبل نجما فى الاذاعات الأهلية يتابعه كل من يريد الاستماع للتراث القديم. أما الشعراء و الأدباء والمثقفون فلم يغيبوا عن هذه اللحظة التاريخية. فتقدم على الجارم بقصيدة وألقيت قصيدة لأحمد شوقى أمير الشعراء، وبعده فتح الطريق أمام علماء فى علم و قامة د. على مصطفى مشرفة الذى تحتفظ الإذاعة المصرية بنص أحاديث له بالاشتراك مع كلية العلوم كانت تلقى على المستمعين اسبوعيا منذ عام 1938 وحتى عام 1940 ود. طه حسين والعقاد ود.سهير القلماوى لكى يكونوا أصواتا بعد أن كانوا أقلاما تصل لقلب المستمع وفكره. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد ظهر الكاتب “الملاكى” أن صح التعبير وهو الذى يبدع للإذاعة المصرية وحدها، كما حدث مع طاهر أبو فاشا ورائعته ألف ليلة وليلة التى كانت تحكيها الفنانة زوزو نبيل والفنان عبد الرحيم الزرقانى ويتابعها ملايين العرب والمصريين لتكون قاعدة عريضة لم يحققها الكتاب الأصلى الذى كان من أوائل الكتب التى طبعت فى مطبعة بولاق. وأيضا فى “ فوازير رمضان” التى كتبها بيرم التونسى ثم صلاح جاهين خصيصا لصوت أمال فهمى فكانت الوكيل الوحيد والسفير لإبداع هذين العملاقين. أما الاوبريتات والمسلسلات الإذاعية فقدكانت نفحة مصرية خاصة فقد أحتفظ كل مستمع بمقعده بجوار الراديو وظل ينتظر الاستماع إلى سمارة وعوف الأصيل ومعروف الاسكافى- الذى استمعنا فيه لصوت عبد الحليم حافظ- وعلى بابا والأربعين حرامى وحلاوة زمان والدندورمة. فقد قيل وقتها أن الشوراع وخاصة فى شهر رمضان كانت شبه خالية وكأن أهل مصر قد هجروها وقت إذاعة هذه الاعمال الفنية و كان صوت الفنانين هو الباب الذى يدخل منه الناس إلى عالم الخيال الاسطورى المسحور الذى رغم كل روعته الا أنه لا يذهب بعيدا عن العادات والتقاليد المصرية. والغريب أنه لم يكن فى توقع أحد كل هذا الامتداد والانغماس الاذاعى فى حب الوطن، ففى سنوات قليلة أصبحت الإذاعة المصرية شريكة فى الكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية بل وتعرضت الاذاعة للقصف والتهديد أثناء الحرب العالمية الثانية ومن خلالها تابع الناس أخبار معاهدة 1936وحرب فلسطين وإعلان قيام ثورة يوليو 1952 وقرارات تأميم القناة وخطب عبد الناصر الثورية صاحبة التأثير الكبير على حركة التحرر العربى والأفريقى. ربما يرجع هذا إلى الحركة التمصيرية التى تبنتها الاذاعة منذ الاربعينات بعد أن استقلت عن ماركونى حتى قبل ان ينتهى عقدها مع الشركة والذى ينص على تسليم الاذاعة لتصبح فى العهدة الكاملة للحكومة المصرية فى نهاية عام 1949، الا أنه قبل ذلك بعامين فسخت مصر العقد بسبب خلافات سياسية مع بريطانيا ليحل المصريون محل الاجانب و تصبح ساعة جامعة القاهرة هى الميقات الحاكم لزمن البث الاذاعى. بقى أن نقول ان الأذن قد عشقت الكثير من الأصوات التى انطلقت منذ رئاسة سعيد باشا لطفى أول رئيس للاذاعة المصرية لتعيش فى ذاكرة الابناء و الاجداد وهى أصوات محمد محمود شعبان بابا شارو وآمال فهمى وصفية المهندس وفهمى عمر و حلمى البلك وفاروق شوشة و أبلة فضيلة من خلال إذاعات البرنامج العام والقاهرة الكبرى والشرق الاوسط وراديو مصر والشباب والرياضة والقرآن الكريم والبرنامج الموسيقى والبرنامج الثقافى والبرنامج الأوربى وغيرها لتمثل كل محطة قصة سياسية وإجتماعية فريدة فى بر مصر ...ولهذا لا يمكننا أن نطلب من الإذاعة التى مازالت جزءا من الكيان المصرى الا الاستمرار والتألق، فلا أحد يستطيع أن ينال من عرشها ومكانتها التى تمثل عصرا بأكمله كان أزهى عصور ثقافتنا وإن كان لم يبلغ نهايته فمازلنا ننتظر منها الكثير ..و لهذا افتح يا سمسم وإلى حكايات إذاعية أخرى.