أنا على قناعة تامة بعدم جدوى استطلاعات الرأى العام لأنها تعتبر أحد أشكال التدخل فى العملية الديمقراطية وتوجيه الناخبين، وبالتالى ليس صحيحًا أنها إحدى آليات الديمقراطية أو كما قال «جالوب» هى نبض الديمقراطية. موقفى هنا جزء من تيار عريض بين أساتذة وخبراء السياسة والإعلام والرأى العام فى العالم، ويرى هذا التيار أن الاستطلاعات لا علاقة لها بالعلم رغم كثرة حديثها عن الدقة والموضوعية ورغم استعمالها لبعض أدوات البحوث الميدانية، لأن الاستطلاعات صناعة وتجارة وتعمل لمصلحة من يدفع أكثر، وهناك حالات كثيرة فى أمريكا وأوروبا أثبتت تحقيقات مستقلة عمليات التلاعب بالاستطلاعات وتوظيفها لمصلحة النخب الاقتصادية والسياسية المسيطرة، وهناك توجه أكاديمى محترم يدعو لإلغاء الاستطلاعات واستبدالها بالتفاعلات المباشرة بين ملايين المواطنين على الانترنت، واجراء استطلاعات أو حتى انتخابات يشارك فيها كل المواطنين على شبكة الانترنت، وهذا التوجه يتحدث بمنطق قوى عن العودة للديمقراطية المباشرة التى عرفها اليونانيون قديمًا ولكن عبر الانترنت، وبحيث يعاد شكل الاستطلاعات والانتخابات الحالية بل والتمثيل البرلمانى وإيجاد صيغ جديدة للمشاركة السياسية المباشرة عبر الانترنت والمواطن الشبكى تتجاوز فكرة الناخب التقليدى الذى يذهب لمراكز الاقتراع كل عدة سنوات . متى يحدث ذلك؟ أعتقد أن تكنولوجيا الاتصال وتعميم الانترنت ومضاعفة سرعاته وخفض أسعاره كلها عوامل تقرب البشرية من عصر المشاركة السياسية الواسعة والمباشرة، لكن ماذا عنا فى مصر، ونحن مازلنا فى سنة أولى ديمقراطية؟ أتصور أن العولمة لا تجعلنا بمنأى عن كل هذه التطورات، وبالتالى من واجبنا أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، وهنا سأركز حديثى على استطلاعات الرأى العام، وهل من الضرورى أن نمارس تلك الآلية التى تتعرض لانتقادات شديدة وتخضع لحسابات المكسب والخسارة؟ أعتقد واستنادًا إلى ما يجرى فى العالم من تحولات بشأن الاستطلاعات والديمقراطية علاوة على الفشل المتكرر فى إجراء استطلاعات الرأى العام فى مصر أنه لا داعى لإجراء استطلاعات رأى عام جديدة أثناء الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية القادمة، ولاشك أن اعتقادى قد يصيب البعض بالدهشة، ويؤثر بالسلب على مصالح بعض العاملين فى مجال استطلاعات الرأى العام، لكن عليهم أن يفكروا بموضوعية وتجرد فيما أقوله، وقمة الوعى أن يتجاوز الشخص مصالحه من أجل المصلحة العامة، وقناعتى أن العاملين فى استطلاعات الرأى العام يسعون إلى المصلحة العامة، وإن اختلفت الطرق والوسائل، وعلينا أن نفكر في: 1 أسباب الفشل المتكرر فى توقع نتائج الانتخابات البرلمانية 2012، والسباق الرئاسى الماضي، والعديد من الاستطلاعات السياسية والاجتماعية التى أجريت فى مصر منذ الاستطلاع الشهير عن زيارة السادات للقدس والذى كانت نتيجته غير مسبوقة عالميًا فى تاريخ استطلاعات الرأى العام حيث أيد الزيارة 100 % من أفراد العينة ! 2 غموض مصادر تمويل استطلاعات الرأى التى أجريت فى مصر، أو اعتماد كثير منها على تمويل أجنبى أو حكومى يؤثر ولاشك فى اختيار موضوعات استطلاعات الرأي، وتوقيت كل منها وحجم العينة، ومن ثم نتائجها. و تقادم البيانات الإحصائية عن السكان وقواعد المعلومات اللازمة لتوفير إطار ملائم لسحب عينات ممثلة للمجتمع. 3 استمرار ثقافة الاستبداد والخوف لدى قطاعات واسعة من الشعب مما يثير كثيرا من الشكوك فى مدى دقة ومصداقية مشاركة الأفراد فى استطلاعات الرأى العام، يضاعف من ذلك الأمية واستخدام الهاتف أو استمارة الاستبيان الورقية لاستطلاع آراء المواطنين، وكلها أدوات تثير شكوك المواطنين، وتدفعهم لإخفاء آرائهم أو مجاراة الأفندية الذين يطرحون عليهم أسئلة الاستطلاع . 4 عدم التعويل على نجاح استطلاعات الرأى فى توقع نتائج السباق الرئاسى بين السيسى وحمدين، لأن الظروف الاستثنائية التى يمر بها الوطن، وحالة الانقسام السياسى والاستقطاب المجتمعى تجعل من السهل توقع نتائج الانتخابات، خاصة أن هناك فروقا واضحة فى حظوظ المرشحين وامكاناتهما المادية والبشرية. ولاشك أن هذه الظروف مختلفة تمامًا عن السباق الرئاسى فى 2012 والذى فضح ضعف وهشاشة استطلاعات الرأى العام حيث جاءت نتائج الانتخابات متناقضة مع كل نتائج استطلاعات الرأى العام. خلاصة القول أن التفكير فى العناصر الخمسة السابقة تؤكد عدم جدوى إجراء استطلاعات رأى عام فى الانتخابات الرئاسية، والتركيز على دعم آليات التحول الديمقراطى والتى ليس من بينها إجراء استطلاعات للرأى العام، وأظن أن ضمان نزاهة الانتخابات، والتغطية الإعلامية المتوازنة ودعم الأحزاب، والمجتمع المدنى هى أهم من إجراء استطلاعات للرأى العام قد تشوه العملية الديمقراطية الوليدة وتقود الناخبين إلى تأييد مرشح بعينه، إذن المطلوب الخروج جزئياً عن النموذج الغربى فى التحول الديمقراطى باستبعاد آلية استطلاعات الرأى العام والتركيز على بقية آليات الديمقراطية، والتفكير من الآن فى إمكانية تشبيك المواطنين على الانترنت وممارسة أشكال جديدة من الحوار واستطلاع الآراء وربما التصويت فى الانتخابات عبر الانترنت ، ولاشك أن الأمية تشكل عقبة كبيرة لكن يمكن البحث عن حلول غير تقليدية لدمج الأميين فى المجال العام الحر الذى يخلقه الانترنت، أو من خلال الاتصال على مرحلتين أو أكثر. ولعل تجربة انتشار الفيس بوك بعد ثورة يناير وتداول الأخبار والشائعات التى تحملها صفحات الفيس بوك بين المصريين أميين ومتعلمين تشجع على التفكير فى وسائل دمج الأميين فى فضاء الانترنت ، لكنها تظل عملية صعبة لكنها ليست مستحيلة، فمن الميسور تمكين الأميين من التصويت عبر الشبكة فى مراكز الاقتراع باستخدام رموز انتخابية، مع احتفاظ غير الأميين بحقه فى التصويت والمشاركة من منازلهم، وعلينا أن نتذكر دائمًا أن الأمية تمثل عقبة كبيرة أيضا فى استطلاعات الرأى العام، عموما أتمنى أن تتبنى إحدى الجامعات أو المراكز البحثية المحترمة إقامة ندوة لمناقشة هذا الموضوع من كل جوانبه. لمزيد من مقالات محمد شومان