بعد فنجان من القهوة فى أحد مقاهى فيينا سار فى شوارعها, يبحث عن صباه الذى كان فى زيارته الأولى لها، ويبحث عن امرأة لم يفز بها فى فييناه القديمة، ليس امرأة بعينها، بل واحدة يجد فيها كل ما فقده أو كل ما أفلت منه فلم يصبه. وبعد فنجان من القهوة انتابته حالة الشجن وشهوة الروح للموسيقى وللكتابة. هو روائى يبحث عن الرواية المعجزة، وهو هاو للموسيقى يريد أن يتعلم عزفها وقراءة نوتتها بعد أن تيبست أصابعه بفعل الشيخوخة.. فشل فى زواجه، ولكن لم يفشل فى الكتابة، بل حقق بعض النجاح الأدبى، لكنه يترك مصر فى زيارة لفيينا غرضها الحقيقى أن يبدأ الحياة من جديد بعد زواج كارثى خلف ابنتين شابتين وفراغاً فى تجويف الصدر. وها هو بعد القهوة يدور فى شوارع فيينا حالما أن يذوق قطرة أخيرة من الحب. هكذا تنتهى رواية «بعد القهوة» للكاتب عبدالرشيد محمودى، الحاصلة على جائزة الشيخ زايد لهذا العام، والصادرة عن «مكتبة الدار العربية للكتاب». وليس هكذا تبتدئ. فبدايتها فى قرية مصرية من قرى محافظة الشرقية، حيث يولد بطل الرواية «مدحت», يتيما له العديد من الأمهات، فموهبته الأولى منذ صباه أنه يثير فى بعض النساء حنان الأمومة فى فيض قاهر يجعل منهن أمهات كاملات له. يحدث هذا فى الجزء الأول من الرواية لبعض نساء القرية، وفى الجزء الثانى فى نفس «ماريكا» اليونانية التى تبنته ونقلته - جغرافياً وحضارياً - من القرية لحدائق الحى الافرنجى فى مدينة الإسماعيلية. وفى بيت «سالم» زوج أمه بالتبنى، اطلع مدحت، وهو بعد دون العاشرة، على مكتبة «سالم» سراً، وكانت هذه هى النقلة الكبرى فى حياته. لقد تم غرس الشتلة الأولى للحديقة التى تستيقظ أوراقها فى رأس مدحت الكهل بعد فنجان من القهوة. ليست المسألة جوعاً إلى الحب، وإن كان هذا موجوداً، ولا تعويضاً عن الحرمان من الموسيقى بفرمان من زوجته الراحلة المستبدة؛ إنه حنين إلى الاكتمال، الامتلاء بالحب وبالكتابة وبالجمال. إنه ذلك الشوق المبهم الذى, بعد فنجان من القهوة، يحفز الخلايا المبدعة لأن تضىء وتتوهج، وتكمل مشوارها القديم الجديد, أو ما يسميه محمودى الوصول إلى «الرواية المعجزة». هذه قراءة خاصة واجتزائية للرواية، أو بالأدق، «فى» الرواية، التى هى بالطبع أشمل من ذلك. والواقع أن أجزاءها الثلاثة: الطفولة المبكرة فى القرية (بعنوان «قاتلة الذئب»)، والصبا فى الإسماعيلية وأبوكبير («الخروف الضال»)، ثم القفزة الزمانية والمكانية إلى كهولة مدحت ورحلته إلى فيينا («البرهان») - هذه الأجزاء الثلاثة لا تربطها إلا شخصية بطل الرواية, والأحداث المهمة والشخصيات الرئيسية فى كل جزء تنطوى بانتهاء علاقتها ب «مدحت»، ومعظمها لا يعيش بعد ذلك حتى فى ذاكرته، وهو ما يجعل هذه الثلاثية المصغرة مفككة بعض الشىء، أو لنقل أنها تعانى مركزية البطل الأوحد، رغم غنى شخصياتها قصيرة العمر. أياً كان الأمر، الرواية ممتعة وحافلة بالشعر - بمعنى الشاعرية - وربما ليست بعد هى «الرواية المعجزة» التى يحلم بها الكاتب ، لكنها عمل جميل يستحق الاحتفاء، ويستحق الجائزة. لمزيد من مقالات بهاء جاهين