هذا المقال هو استمرار لمقال الجمعة الماضى فى الأهرام (عدد 2 – 5 – 2014) الذى تناول واقع : أن مهرجان للطبول ليس إلا مهرجانا للإيقاع، وإن مهرجانا للإيقاع كان لابد أن يقدم جمعا لآلات الإيقاع المصرية وسجلا بأسمائها ويقدم العروض الموسيقية التى تشارك فيها هذه الآلات تباعا وبما يضع لنا سجلا تاريخيا لتلك الآلات مجتمعة ! وإن على المهرجان تقديم تصنيف صحيح للبيئات الشعبية المصرية الأربع من صعيد وريف وبدو وبيئة سمراء (أسوان والنوبة) وانتماء كل آلة إيقاعية (نقرزان كان أو نقارة أو طار .. ) لبيئة أو أخرى .. وكيف أن المهرجان أطلق على نفسه اسم «حوار الطبول من أجل السلام» مع إن الحوار فى الموسيقى لم يكن ولا يمكن أن يكون بين الطبول فالطبول آلات إيقاعية، فى حين أن آلات أخرى «آلات لحنية» تقدم الحوار على شاكلة العود أو الكمان! فالحوار يقع بين الآلات اللحنية فحسب (أى بين الألحان وليس بين الإيقاعات) .
كما تناول المقال الاسم الثانى المغلوط للمهرجان « للفنون التراثية» من واقع أن مفهوم التراث لا ينطبق على الفن الشعبى وإنما على فن المدن .. فن المدن الماضى تميزا له عن فن المدن الحاضر! وأن الفن الشعبى الذى قدمه المهرجان لا ينقسم إلى تراث والى فن حديث ولا ينقسم إلى مدارس قديمة (تراث) ومدارس جديدة معاصرة، والتقسيم لتراث وحديث يصلح فقط لفن المدن ومطربيها وملحنيها! فالفن الشعبى لا يتغير تغيرا ملموسا إلا بمرور مئات ومئات السنين، ويسمى بأسماء المراحل التاريخية كاملة كأن يقال «الفن الشعبى المملوكي» أو «الفن الشعبى أثناء الاحتلال العثماني» أو يسمى تبعا لبيئته كأن يقال «الفن الشعبى الريفي» أو «الصعيدي» أو «البدوي» ولا يطلقون عليه أبدا مسميات مثل «التراث» أو «الحداثة» وفى هذا المقال (المقال الثانى عن ذات الموضوع) نتناول أحد أغرب جوانب مهرجان «الطبول والفنون التراثية» جانب عجيب وليس له مثيل .. لم يحدث بمهرجان كان او مؤتمر أو حتى مسابقة فنية ولا فى أى بلد كان فى العالم! فقد نشرت الصحف قبل المهرجان اقتراحا قدمه المؤسس «انتصار عبد الفتاح» يدعو فيه إلي: «أن يقوم المهرجان بقيادة الجمهور الكبير بحوار إيقاعيً موسيقى مع الفرق الزائرة، ويشترط أن يجلب أفراد الجمهور معه أى آلة إيقاعية أو أدوات تستخدم فى الحياة اليومية للدق عليها .. حيث اشتهر الفنان انتصار بتقديم فقرة بعنوان «موسيقى المطبخ» بمشاركة الجمهور التى تتمثل فى استخدام المشاهدين للحلل والهون النحاس والطشت والقباقيب والبراميل والكاسرولات» . ونتذكر إزاء كل هذا العبث تعريف الشيخ العظيم «ابن سينا» 1037 / 980 م للموسيقي: «الموسيقى هى نظام الصوت» (موسوعة الشفاء – قسم الرياضيات – جوامع علم الموسيقي)، أى أن الموسيقى هى إعمال النظام فى الأصوات، أو أنها بكلمات أخرى : الأصوات التى أدخل الإنسان عليها نظاما خاصا. وهكذا لا يمكن للموسيقى أبدا أن تكون تلك الأصوات العفوية المرتجلة والعشوائية .. الصادرة عن احتكاك أو اصطكاك أو اصطدام أو قرع الجمهور للحلل والكاسرولات والقباقيب (القرع وفقا لما يراه الجمهور ! ) . وبنفس القدر لا يمكن أن تكون الموسيقى تلك الأصوات العفوية الصادرة عن الظواهر الطبيعية المحيطة. وبديهى إذن أن الأصوات التى لم يجر عليها الإنسان نظاما ما ليست من الموسيقى . ويكشف لنا التاريخ حقيقة إن الموسيقى باعتبارها «الأصوات المنظمة» قد ارتبطت ارتباطا عضويا بالات خاصة لإصدارها .. آلات موسيقية ظل الإنسان يحسب حساباتها ويعيد ويدقق على مدى تاريخه كله لكى تتمكن فى النهاية من إصدار «الأصوات المنظمة» التى أرادها واصطفاها من بين أصوات الطبيعة. وسميت هذه الأصوات بأسماء اختلفت باختلاف الحضارات (دو رى مى فا صول .. فى أوروبا، راست ودوكاه وسيكا .. فى الشرق) . ولا ريب أن رقع «الحلل» و دق «الهون النحاس» على هوى الجمهور لا يصدر أصواتا منظمة! من ناحية أخرى تنتمى آلات وأدوات العمل الموسيقى إلى فصائل ست هي: آلات نفخ خشبية آلات نفخ نحاسية آلات وترية آلات إيقاعية آلات كهربائية - بالإضافة إلى : الصوت الحى للإنسان ولهذه الآلات والأدوات نظام داخلى خاص لا تدرك كنهه غيرها، ولها أصوات محددة تم الاتفاق عليها واختارتها هذه الحضارة أو تلك بينما تعد الأصوات الطبيعية والعفوية الخارجية التى لا يستطيع الإنسان السيطرة عليها «مؤثرات» طبيعية فحسب. وفى الوقت الذى تدعو فيه العروض الموسيقية الجادة الجمهور لالتزام الصمت وعدم إصدار جلبة أو ضوضاء فى أثناء العرض يرفع المهرجان شعار: «عبر عن نفسك وشارك معنا فى حوار الطبول من أجل السلام» داعيا الجمهور لإصدار الإيقاع الذى يريد وباستخدام أدوات (الحلل والقباقيب) لا يمكن للإنسان التحكم فى الإيقاع الصادر عنها .. ويا للعجب ! [email protected]