هذا العام كانت مدينة أوساكا باليابان مثلما كانت مدينة اسطنبولبتركيا العام الماضى .. مدينة الاحتفال بيوم الجاز الدولى يوم 30 من شهر أبريل. وكل من يقرأ هذه السطور غالبا يعرف أين تقع تركيا فى منطقتنا المسماة بالشرق الأوسط أو الشرق الأدنى وأين نجد اليابان على خريطة العالم فى جهة نطلق عليها اسم الشرق الأقصى. وان كنا جغرافيا وسكانيا نعرف الفارق بين اليابانوتركيا، فاننا ثقافيا وفنيا ندرك بالتأكيد التميز والتمايز والاختلاف فيما بينهما الا أن أوساكا وأسطنبول جمعتهما على مدى عشرات السنين أنغام الجاز الصاخبة وأيضا أغانيها الحزينة .. تلك الآتية من الجانب الغربى للمحيط الأطلسى .. من أمريكا أو الولاياتالمتحدة.
ولا شك أن تلك الأنغام والأغانى لا تعرف الحدود وأيضا لا تعترف بها طالما القلب ينبض ويسعد بالحب وأيضا يتوق للحرية ومع «الجاز» يتمايل الجسد ويتلوى ويحطم القيود ولا يستسلم للسكوت ولا يقبل بعدم الحركة ويقاوم الموت. و»الجاز» اليوم وفى وقتنا الحالى نتاج ثقافات قادمة أو منحدرة من منابع مختلفة وآتية من كافة بقاع الأرض تلاقت وتمازجت وتلاقحت لكى تعطى لنا فى النهاية وجوها مشرقة ومبدعة وجذابة لموسيقى وصفت مع نشأتها بأنها كانت تعبر أساسا عن «أنين العبودية وغضب وتمرد السود من الأفارقة الأمريكيين». وتتباين الأوصاف فى تعريف «الجاز» وأنغامها وأغانيها ودورها فى ثقافة الشعوب وأسالوا فى ذلك الفنان المصرى الكبير يحيى خليل رائدنا وشيخنا فى «الجاز» بمصر. وليحيى خليل (بفرقته) دوره الريادى فى نشر ثقافة تذوقها والاستمتاع بها. خليل مع فرقته كان منذ أسابيع فى أوبرا موسكو ليعزف لعشاق «الجاز» هناك، مهد الجاز كان مدينة «نيوأورلينز» بولاية لويزيانا بالجنوب الأمريكى فى نهايات القرن التاسع عشر أو مع بدايات القرن العشرين.. ومنها انطلقت وتدفقت وارتجلت وتصادمت وانصهرت وتشابكت الأنغام والمشاعر والأصوات وحواس العازفين والمستمعين والمستمتعين بالترامبيت والدرامز والبيانو وغيرها.. لنجد فى النهاية أن فرقة ألمانية للجاز تعزف فى أوبرا دمنهور مؤخرا بينما أجد المغنية الأمريكية الشابة ذات أصول عربية فلسطينية واسمها لينا صيقلى تبهر فى العاصمة الأمريكية المستمعين لغنائها المتميز وصوتها الساحر وهى تؤدى أغانى «الجاز». وايرينا بوكوفا مديرة عام منظمة اليونسكو وهى تعلن الاحتفال السنوى باليوم الدولى للجاز قالت: «ان موسيقى الجاز ليست مجرد موسيقى، فهى أسلوب حياة وأداة للحوار،لا بل انها أداة للتغيير الاجتماعي. ويحكى لنا تاريخ الجاز عن قدرة هذه الموسيقى على الجمع بين فنانين ينحدرون من ثقافات وخلفيات مختلفة، لكونها أداة لتحقيق الاندماج والاحترام المتبادل» وقالت أيضا:«وعلى وقع موسيقى الجاز قامت الحركات المناضلة من أجل اقرار الحقوق المدنية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية وفى غيرها من أرجاء العالم. ومن خلال موسيقى الجاز، تغنى ملايين الأشخاص ومازالوا يغنون معبرين عن توقهم وتطلعهم الى الحرية والتسامح والكرامة الانسانية». وانسانية الجاز وعالمية الجاز وعبقرية الجاز هى الظواهر التى أقف أمامها منبهرا ومتأملا وبالطبع أتمايل مع نغماتها وأغانيها. فنون الموسيقى والغناء لها أهلها، ومن يقوم بشرحها وتشريحها لبيان مكامن الاستماع والاستمتاع بها، وهذا ليس مقصدى بهذه الكلمات وهذه الالتفاتة. فى الجاز بشكل عام وبشكل خاص نجد هذا المزج الأفريقى الغربى للموسيقى والأوتار والنغمة والطبول والأداء والتمايل والاندماج والسكون ومع هذه الخلطة الابداعية نجد الخطوات المتتالية للحالة النفسية والابداعية التى تطرب الأذان وتطلق الأرواح وتحرر الأجساد. وهنا من الطبيعى أن يتساءل المرء عن دور الموسيقى فى اعادة ترتيب المشاعر وملاغاة الأحاسيس والابتعاد عن هموم الواقع واللحظة الآنية. ويذكر فى عالم الجاز تاريخيا بأن خلال أيام الحرب الباردة قررت الولاياتالمتحدة وفى لحظة ما أن ترسل الى دول العالم وشعوبها من وصفتهم ب «سفراء الفنون» ومنهم موسيقى الجاز وعازفها العظام. فرأينا نجوم الجاز مثل ديوك الينجتون وديزى جيلسبى وديف بروبك يذهبون الى بلاد مثل سوريا والأردن وأفغانستان والعراق واليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية. وكجزء من هذه «الدبلوماسية الثقافية» جاء العظيم لويس أرمسترونج الى مصر عام 1961. حيث قام أرمسترونج مثلما ظهر فى صور تاريخية تسجل اللحظة وتخلدها بعزف الترامبيت لزوجته لوسيل على هضبة الأهرامات وأمام أبى الهول. وهذه «الدبلوماسية الثقافية» من جانب الولاياتالمتحدة وسفرائها من المبدعين مستمرة حتى يومنا هذا وان كانت ابداعاتهم وفنونهم غالبا ما تضيع أو تتعرض للتشويش وسط صرخات السياسات وتصريحات الساسة الأمريكان!! وطالما نتأمل عالم الجاز ونتمايل مع نغماتها فان من أهم ملامح موسيقى الجاز بالطبع الدفقة والدفعة للتحرر من «عبودية الواقع» أو «واقع العبودية» .. وأيضا الارتجال للتعبير عن مكنون النفس ومن ثم التواصل مع الآخرين. والكاتبة الأمريكية السوداء تونى موريسون والحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 1993 استعملت ووظفت كل أدوات الجاز وأساليبها ودفقتها وارتجالها فى كتابة رواية لها اسمها «جاز». وهذه الرواية فى نسختها الصوتية والتى قامت بقراءتها الكاتبة نفسها ومدتها ثلاث ساعات .. وأنت تسمعها تشعر بايقاع موسيقى الجاز التى تعكس الارتجال والتلقائية فى السرد والشوق الى التواصل والتوق لتحرير الروح الحبيسة من العبودية وانطلاقها واندفاعها واحتضانها للحياة. انها «تضفيرة» الذكريات والأحلام والأفراح والآلام فى قالب روائى وسرد انساني. وبما أن دائما لا بد من التفاتة .. فان القدرة على الاستمتاع بموسيقى ما (الجاز فى حالنا اليوم) ترجع أولا وأخيرا الى ما يسمى ب»التذوق» وهل أتيحت لك الفرصة أو سعيت أنت بنفسك لكى تنمى قدراتك على هذا التذوق ومن ثم الاستمتاع بما تسمعه من موسيقى .. لتغوص فى بحار أنغامها. وأيضا أن التفاصيل مهما كانت صغيرة هى الحياة بتعريفها الشامل وأن التفاصيل تعد دائما وأبدا دليلا دامغا وتجسيدا حيا لتنوع الحياة وتعدديتها وثرائها وأيضا تأكيدا لتواجد أشكال عديدة وألوان وأنغام مختلفة معا فيها. كما أن التفاصيل بالنسبة للحياة تعنى تراكم الخبرات فيها وتزاوج الثقافات من خلالها. ولهذا السبب قيل كثيرا أقف مأخوذا بهذه الموسيقى لأننى أجد نفسى فيها وأيضا أجد نفسى بها .. ومن خلالها. ومن هنا يأتى الاستماع والاستمتاع والمزيد من الاستماع من أجل المزيد من الاستمتاع. وهكذا تتواصل متعة الاستماع ومتعة التفاصيل معنا فى حياتنا اليومية.