حين قال الراحل جابريل جارسيا ماركيز فى حوار قديم «إن أبي لايزال يحكمنا من قبره» بدا وكأنما لا يتحدث عن كولومبيا، إنما عن مصر. مذكرا بالعيوب الاجتماعية التي لا يعد التعرف عليها من شأن علماء الاجتماع وحدهم إنما الأدباء أيضا من باب التحلي بالرؤية النقدية لشعوبهم، وليس طبعا من باب جلد الذات. فمن ذا الذي لم تؤثر فيه مقولات تلصق الصفات الثابتة بالمصريين وكأن الخضوع سمة تاريخية لا فكاك منها من غير أن تفاجئه قولة أديب مثل بريخت حول موجة شاعت فى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية «كانت تمنح الشعب خصائص ثابتة، وميراثا مبجلا. وتضفي عليه سمات من الورع، واعداء وراثيين وقوي لا تقهر، بحيث يبدو وكأن هناك وحدة ملحوظة بين من يسوم العذاب، ومن يسام العذاب.. بين الخادع والمخدوع». هو أيضا ماركيز الذي قال عن الموت «هو المهندس الأعظم فى أمتنا كولومبيا الذي يعيد صياغة كل شىء من جديد» أتراه يتحدث مرة أخري عن مصر! أقصد أن الأدباء هم الأكثر فراسة دائما فى التعرف على نقاط الضعف وتوقع الكبوات فمن منا لا يندهش مثلا للشجاعة والاصرار اللذين وسما جيلين من شباب مصر كي يصنعا تلك الهبة العظيمة التي وضعت خطا فاصلا بين ما قبل وما بعد نقصد يناير 2011 وتبئنا مطالعة ما ينتجونه من فنون واداب في ذات الوقت عن حظ أقل من المعرفة كأنما يبدأون كل جهدهم وإبداعهم من الصفر.. كأنهم يجربون البدايات الأولى.. كأنما لا تراكم هناك، عاقدين مزجا غريبا بين التدين والإلحاد والحرية والأبوية والانتماء والرغبة فى الهجرة ما أن يفكر المرء هكذا حتي تبادرونا تجربة خوان غويتسيلو كما يترجمها جهاد كاظم هكذا.. سنشهد مصعوقين تارة، مفتونين طورا واحدة من أكبر الهجومات التجديفية والهدمية يشنها إنسان أعزل علي ثقافته الأصلية التي يعدها قمعية وهو يذهب في ملاحقة التراث الأسباني القمعي حتي كوبا، باسطا محاكمته الي حدود الثقافة الأوروبية والغربية بكاملها، رأيناه وهو يفضح هذه الخريطة الفجائعية لبلاده، ثم وهو يلتحم أكثر بسكان البلاد التي تبناها مسرحا لتسكعاته وهذياناته» ويصف الكاتب من جديد البنيان القمعي للثقافة الأسبانية «هناك اعتبار نقاوة الدم، التي سمحت للأسبان بطرد العرب والمسلمين واليهود، وأساطير التفوق الأسباني، وتمتع أسبانيا بهبة من لدن السماء يميزها ثراء في أعمال الروح العذرية والطهارة الكنسية، والفكرة القائلة بتمتع العرق الأبيض وبالأخص منه الأسباني برسالة سماوية تتمثل فى تحضير الآخرين» نحن إذن بصدد أوهام شعوب كثيرة هذه رؤية كاتب روائى آخر يشن هجوما علي ثقافته ويراها ترتكز على الهدم. من ناحية أخري من منا يمكنه أن يرفض «نمط التفكير الفهلوى» ذلك الذي صنفه سيد ياسين كأسلوب تفكير مصري إضافة إلى أنماط التفكير المدروسة (التفكير العلمي التفكير الخرافي التفكير الاسطوري).. هذه الفهلوة التي هي لصيقة الجهل والادعاء، والتي يشن عليها الأديب الروسي تورنيف حربه فى الرواية «دخان» باعتبارها سمة للطبقة المتوسطة في روسيا قبل قرن ونصف القرن.. «تلك العبارات المموجة مثل قولهم.. لا أحد يموت جوعا في روسيا.. و.. نحن الروس لا أحد يستطيع أن يغلبنا.. إنني أسمع كثيرا عن الفطرة الروسية ولكن ما هذه الفطرة الغنية؟.. إنها كحكمة الحيوان.. خذ نحلة الغابة وضعها علي مسافة ميل من بيتها، فستهتدي إليه، إن الانسان لا يستطيع ان يصنع شيئا كهذا.. فهل نقول إنه أحقر من النحلة؟.. إن العقل لا يأتي بمثل هذه الغرائب، ولكن عماد كل شىء. أما كوليبين مثلا الذي توصل الي صنع ساعات بالغة الرداءة دون أن يعلم شيئا عن الميكانيكا وأنا أعتقد أن ساعاته يجب أن تعرض على الملأ مع هذه العبارة.. أنظروا هكذا يجب ألا تصنع الساعات، ولا بأس بأن نعجب بجرأة تيلوشكين وبراعته إذا تسلق برج وزارة الحربية، ولكن لا حاجة لنا أن نصيح بأنه أظهر جهل المهندسين الألمان.. بالله لا تشجعوا القول فى روسيا أن كل شيء يمكن عمله بلا تعلم».. هذا وهم آخر نشارك فيه شعوبا أخري، صحيح أن الكتاب ليسوا أساتذة ولا يعرفون أكثر من الاخرين، إنما هم فقط أكثر استشعارا للخطر من غيرهم. لا أحب ترديد أسماء الخواجات فيما أكتب.. لكن الاسترشاد بتجارب شعوب وأدباء آخرين له أهمية فى هذا السياق كوننا «مش نبوعه» وأن ما أشبه ليلنا بليلهم. صحيح أيضا أن أكثر مواطن الخلل الاجتماعي لدينا يمكن ردها الي دولة شديدة المركزية تاريخيا، وهو ما يعني مسئولية نظم الحكم المتعاقبة عن بقاء وتناسل تلك العيوب. في بحث مهم للراحل د.علي فهمي بعنوان «الدين الشعبي في مصر المحروسة» يؤكد استمرار المركزية الجغرافية في القاهرة حتي مع الدولة الحديثة اضافة الي اللامركزية السياسية هكذا يقول الباحث حتي ان اكثر العلماء الذين صنعوا ما يعرف بالنهضة الاسلامية لم يكونوا مصريين بل وافدين الي مصر من مركز الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت بغداد وهذا معناه انه لم تنهض من مصر ثورات فكرية ذات طابع إسلامي، بل جاءت الي مصر لتشع على العالم الإسلامي (يذكر الباحث اسماء مثل الكندي وأبو الحسن البصري، والخوارزمي وابن خلدون وجابر بن حيان وابن سينا وابن رشد) يضيف وكذا فإن أئمة الفقه السني (الإمام الشافعي وأبو حنيفة النعمان) ليسوا مصريين بل وفدوا واستنوا مذاهب وتفسيرات تلائم المصريين ويمكن قول مثل هذا عن الحكام. عود الي الموضوع، والذي هو تلمس دور الأدباء لعيوب شعوبهم بنظرة نقدية دون خوف، إنما هو أمر بالغ الأهمية، ورغم أن للفعل السياسي الدور الأول دائما يظل لهذه النظرة النقدية دور (ثقافي) في تحديد اتجاه هذا الفعل. تحدثنا عن الفهلوة.. فماذا عن (السماع).. ألا يلاحظ أحد أن نصف المصريين لا يسمعون! يبادرون بالقول وبالإجابات فيما يشبه التبرير.. حتي النخبة ذاتها.. وهو ما يعني أن الجميع سواء بسواء تعرضوا لضغوط كثيرة تقتضي إغلاق الحواس!.. أما الذاكرة… فحدث ولا حرج.. بل حدث بكل الحرج عن ضعف الذاكرة، الذي يفقد التراكم جدواه. لم يكن ماركيز فقط، ولا تورجنيف.. ها هو أوكتافيوباث قبل نصف قرن يقول عن سكان أمريكا اللاتينية موطنه سكان الاطراف، ساكنو ضواحي التاريخ، أهل مأدبة لم يدعوا اليها، ظلوا ملتصقين بالباب الخلفي للغرب، المتطفلون الذين وصلوا للحداثة، بينما الأنوار علي وشك الانطفاء، إننا نصل متأخرين لأى محفل، ونولد بينما التاريخ قد أو قل فى تأخره، لم يكن لنا أبدا ماض، أو إذا كان لدينا فقد بصقنا علي بقاياه يضيف لقد غطت قرانا فى النوم لمدة قرن، وسرقوها خلال نومها، والان ها هي تسير في ثيابها الخلقة، فلم تستطع حتي أن تحافظ على ما تركه الاسبان عند رحيلهم، لقد أضعنا أنفسنا بأنفسنا، أهداف الي القول بأننا نشبه غيرنا، وأن ما أشبه يومنا بأمس غيرنا. فمهمة الكاتب تتجاوز الامتاع الي المقاومة.. المقاومة عبر إعلان الحقيقة، والإعلاء من الروح النقدية.. ربما تكون هذه أهم نتائج هبة المصريين فى يناير 2011 نقصد كل الحقيقة وليس بعضا منها، فلولا هذه الهبة العظيمة ما وضع الجميع في أماكنهم وحجومهم، ولما انبث أمل جديد فى المستقبل بعدما انكشف الغطاء عن الجميع، خاصة تلك الانتهازية التي ضمنها دائما الدجل باسم الدين والنصب باسم الله.. ضمها علي مدي تاريخ كامل حتي وسم شعبا بكامله في ظل أمية مخيفة. تنقذنا مراجعة تاريخ أوروبا أيضا من الاحباط الذي يعقب الهبات الشعبية الكبيرة. فتقدم الانسانية لا يعرف الخط المستقيم وثمة مثلان واحد قديم وآخر حديث، فحين هاجم الطاعون أوروبا عام 1340 وقتل ثلث سكانها، سمي منذ ذلك الوقت بالطاعون الاسود. وكان رجال الدين يستخرجون من بين الناس من يظنون انهم لا أخلاقيين ليجلدوهم. وتشكلت فرق ممن سموا «ضاربوا السياط» وفي المقابل قام الناس بمهاجمة القساوسة على اعتبار انهم لم يتقوا الله فيصلوا ويدعوا بما يكفي، وأن الله أرسل الموت الاسود انتقاما منهم لا من الناس وضاربو السياط يتخذون بعد ستة قرون بالضرورة شكل الميليشيات المسلحة التكفيرية بأسماء شتي. لتعيد الي الذاكرة حقيقة ان من يمارسون الوصاية على الآخرين لأنهم متدينون والاخرون كفار، لا يصدقون بالضرورة حكاية الديمقراطية هذه، هذا ما يجعل الاخوان المسلمين يخوضون المعركة الاخيرة مع الشعب المصري اجمالا.. المعركة الأخيرة فعلا، فما أشبه حاضرنا العربي بقرون أوروبا الوسطي. مثل اخر قريب.. يدلنا علي أن التقدم باتجاه الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، يمكن ان يشهد انتكاسات مروعة تنشط فيها الأفكار الفاشية بين العامة، ففي النرويج عقب انتهاء الحرب العالمية الأولي التي قتل فيها 7 ملايين من البشر وشرد أضعافهم وجري هدم مدن بكاملها، سادت شمال أوروبا بالذات حالة من الشعور بلا جدوي التقدم والسلام، فكان الناس يمزقون صور رينوار ويكومون في الميادين رصصا من مؤلفات فرويد وإبسن وروايات وأشعار ووردث ورث وجن كيتس وشيلي وكتابات بشرت بعالم يجري تقويضه بغير مبررات واضحة، وجري حرقها بل وفي إيطاليا شكلت لجنة رسمية «لتنظيف الأدب» في ميل تطهري أطلت معه القرون الوسطي لأوروبا من جديد، وهي أحداث توجت بانتخاب هتلر وصعود النازية، مثلما كان لها جانبها الايجابي ايضا، إذ ألهمت شهوة القتل التي تبدت عالما مثل فرويد لأن يكتشف ان الموت أيضا «عزيزة» شأن عزيزة الحياة وان الانسان يحمل كليهما داخله، عزيزة بمعني ان الانسان يسعي اليها كالحياة، لكنه يحيا بقدر مقاومته، عزيزة الموت وغلبة الرغبة في الحياة، وكان اكتشافه هائلا. هل تفسر هذه الواقعة القريبة زمنيا صعود نجم الاخوان المسلمين الي حد تمكنهم من المجتمع فى العام 2012 مع تنامي الدعوة الي كراهية الحياة والاعلاء من شأن الموت؟ هذا هو شأن الأزمات الاجتماعية الكبري.. أو بالأدق.. التحولات الاجتماعية الكبري نقصد أخيرا من كل هذا ان ألا بأس من مراجعات تصحبها نظرة نقدية لنا ولتاريخنا، فما أشبهنا بغيرنا من الشعوب، بل ان هذا التشابه بالذات له أن يجعلنا أكثر تفاؤلا بالمستقبل، مستقبل يحكمه القانون ولا تتردد فيه مقولة خطيرة مثل .. «يتعدم في ميدان عام» مقولة يتطهر فيها القائل على حساب المتهم، إن الاصغاء الي الأدباء والتحلي بروح نقدية لثقافتنا، سبيلنا الي هذا المستقبل.