اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    جامعة أسيوط الجديدة التكنولوجية تنهي كافة الاستعدادات لامتحانات الفصل الدراسي الثاني    التأخيرات المتوقعة اليوم فى حركة قطارات السكة الحديد    أسعار الدولار اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    بدء مراسم تشييع رئيسي ومرافقيه في مدينة تبريز الإيرانية    رغم انتهاء ولايته رسميًا.. الأمم المتحدة: زيلينسكي سيظل الرئيس الشرعي لأوكرانيا    بعد رحلة 9 سنوات.. ماذا قدم كلوب لفريق ليفربول؟    الأجهزة الأمنية تكثف نشاطها لإنقاذ ضحايا حادث غرق سيارة في المنوفية    موعد إجازة عيد الأضحى 2024 في مصر: توقيت وقفة عرفات وعدد أيام العطلة    حمدي الميرغني يحيي ذكرى رحيل سمير غانم: كنت ومازلت وستظل أسطورة الضحك    ترتيب الدوري المصري 2023-2024 قبل مباريات اليوم الثلاثاء    ننشر بالأسماء ضحايا حادث العقار المنهار بالعياط    براتب 5000 جنيه.. وزارة العمل تعلن عن وظائف جديدة بالقاهرة    خالد عبد الغفار: مركز جوستاف روسي الفرنسي سيقدم خدماته لغير القادرين    قبل طرحه في السينمات.. أبطال وقصة «بنقدر ظروفك» بطولة أحمد الفيشاوي    وزير الصحة: لا توجد دولة في العالم تستطيع مجاراة الزيادة السكانية ببناء المستشفيات    الحماية المدنية تخمد حريق هائل داخل مخزن بمنشأة القناطر (صور)    صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    أمير هشام: الكاف تواصل مع البرتغالي خوان لإخراج إياب نهائي دوري أبطال إفريقيا    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    تفاصيل طقس الأيام المقبلة.. ظاهرة جوية تسيطر على أغلب أنحاء البلاد.. عاجل    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    «سوليفان» يعد بالضغط على إسرائيل لصرف الأموال المحتجزة للسلطة الفلسطينية    وزير الصحة: صناعة الدواء مستقرة.. وصدرنا لقاحات وبعض أدوية كورونا للخارج    وزير الصحة: مصر تستقبل 4 مواليد كل دقيقة    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: لا حلول عسكرية في غزة.. يجب وقف الحرب والبدء بحل الدولتين    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    قتلها وحرق الجثة.. ضبط قاتل عروس المنيا بعد خطوبتها ب "أسبوعين"    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    رفع لافتة كامل العدد.. الأوبرا تحتفي وتكرم الموسيقار عمار الشريعي (تفاصيل)    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    مصطفى أبوزيد: تدخل الدولة لتنفيذ المشروعات القومية كان حكيما    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    كأس أمم إفريقيا للساق الواحدة.. منتخب مصر يكتسح بوروندي «10-2»    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    على باب الوزير    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة دخول ماركيز إلي القاهرة
نشر في أخبار الأدب يوم 26 - 04 - 2014

وكذلك كانت رموز برلمانية تقدم كل يوم استجوابات تسبب صداعا حقيقيا لسلطة السادات شبه المطلقة، ومن بين هذه الرموز المهندس محمود القاضي والمستشار ممتاز نصار ومحمد حلمي مراد الذي كتب بيان 30 مارس، وفتحي رضوان الذي كان يكتب في جريدة الشعب مقالات أسبوعية تشكل حرجا للسادات ونظامه، ولم تكن الحالة الثقافية أفضل حالا، بل كذلك كانت معظم المجلات شبه مؤممة، بعد إغلاق مجلات الطليعة والكاتب والفكر المعاصر والمسرح وغيرها من دوريات وكان معظم المثقفين الذين صنعوا مناخا ثقافيا في عهد الستينيات إما في السجون، أو في الخارج مثل أحمد عبدالمعطي حجازي ومحمود أمين العالم وغالي شكري وغيرهم، وإما خارج كل الأروقة الرسمية ويصنعون حاضرهم علي المقاهي، وإصدار المجلات الثقافية، فكان الناقد الأهم ابراهيم فتحي يعقد ندوته الأسبوعية علي مقهي علي بابا بميدان التحرير، وكان ابراهيم أصلان وعبدالفتاح الجمل ومحمد البساطي وآخرون يعقدون لقاءات ثقافية في مقهي ايزافيتش، وكانت زهرة البستان واسترا مجالا دائما للقاء المثقفين، هذا عدا ندوة نجيب محفوظ يوم الجمعة في مقهي ريش، وندوات الأتيليه التي كانت تشكل حراكا مستقلا عن الثقافة الرسمية التي أصبحت معزولة ومستهجنة، كذلك كان اتحاد الكتاب الذي نشأ بليل في حضن الحكومة، لا يفعل شيئا علي الإطلاق سوي الصراع علي الأراضي التي كان يوزعها الاتحاد علي المحاسيب، وبالتالي كانت الساحة الثقافية تعمل خارج الأروقة الرسمية بجدارة، في هذا الوقت أواخر السبعينيات كان المثقفون المصريون يتسللون إلي الشقة الخلفية في مكتبة مدبولي، للحصول علي ما تطبعه بيروت من كتب ومجلات، وكانت دور النشر في بيروت نشيطة، وتنشر عيون الأدب والفكر الطليعيين في العالم العربي والعالم عموما، وكان الكتاب المصريون أنفسهم ينشرون بعض أعمالهم في بيروت أو بغداد، محمد عفيفي مطر ويحيي الطاهر عبدالله وجمال الغيطاني وأمل دنقل وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور كانوا ينشرون في بغداد أو بيروت، وكان الشعراء والكتاب عموما ينشرون في مجلات الآداب اللبنانية، والأقلام والثقافة الوطنية والطليعة الأدبية في العراق، ومجلتي المعرفة والموقف الأدبي في سوريا، وكان مدبولي يجلب كل هذه المطبوعات إلي مخزنه الخلفي، وفي هذا الوقت بالتحديد صدرت رواية عن دار الفارابي ببيروت لكاتب كولومبي اسمه جابرييل جارثيا ماركيز، كان الاسم بدأ يتردد علي استحياء، وفي ذلك الوقت كان هناك الشاب محمد بكر الذي تمرس علي العمل السياسي المقاوم في صفوف التنظيمات السرية، وكان يعرف أسرار الطباعة في وقت كانت الرقابة ذات إدراك عدائي واضح إزاء المطبوعات الخاصة، وكان محمد بكر بدأ في إصدار سلسلة مطبوعات تحت عنوان "مطبوعات الطريق"، نشر فيها مجموعة كتب ومنشورات باسم صالح محمد صالح الاسم الحركي أو القلمي للمترجم خليل كلفت آنذاك، وكذلك نشرالطبعة الأولي من رواية "المؤسسة" للكاتب فتحي امبابي، كان محمد بكر يعتني بكل ماهو طليعي وتقدمي، وعندما حصل علي نسخة من رواية "ليس لدي الكولونييل من يكاتبه" ترجمة صالح علماني وتدقيق سعيد حورانية لهذا الكاتب الجديد علي أسماعنا جارثيا ماركيز، انبهر صديقنا بكر بالرواية، فما كان إلا أنه قام بتصويرها تصويرا غير جيد، وكان يوزعها بمبلغ زهيد جدا آنذاك"30 قرشا"، وكانت هذه الرواية هي أول عمل روائي يدخل مصر علي وجه الإطلاق، وعرفنا بعد ذلك أن شهرة ماركيز كانت واسعة في العالم، ولكنه وصل إلينا متأخرا، والجدير بالذكر أن صالح علماني يروي حكايته مع ماركيز عندما ذهب إلي أسبانيا عام 1976 وقرأه في لغته الأصلية، وأعجب به، وكان علماني يكتب رواية ، فمزقها عندما فاجأه هذا المستوي العالي من الكتابة، وعندما عاد إلي بلاده بدأ يترجم بعض قصص له، ومن الطريف أن الناقد حسام الخطيب كتب مقالا قال فيه إن صالح علماني يترجم أدبا مجهولا، فما كان من علماني إلا أن يترجم "ليس لدي الكولونيل من يكاتبه"، وينشرها في دار الفارابي، وتصل إلي مصر ، وينفعل بها شاب مصري، ويعمل علي تصويرها وتوزيعها وتجنيد فريق عمل بشكل تطوعي علي دعمه في التوزيع، ولأننا لم نعتد النشر بهذه الطريقة عبر الطرق شبه السّرية، وضمن كتابات سياسية مباشرة، وجدت الرواية طريقها سريعا إلي القراء والمناضلين والساسة، واعتبرها من قرأوها أنها نوع من المقاومة والنضال، وبعد ذلك وصلت نسخة من هذه الرواية إلي أحد كتاب الستينيات المرموقين، والذي له حضور قوي جدا من خلال بضع قصص كان نشرها في الستينيات، وأصدرها بعد ذلك في مجموعة قصصية تحت عنوان "عطشي لماء البحر"، ذلك الكاتب هو محمد ابراهيم مبروك، والذي أقدم علي إصدار غير دوري، ضمن كتيبة المثقفين المصريين الذين فعلوا ذلك، وبالفعل صدر العدد الأول من مجلته التي أسماها "النديم" في يونيو 1981، وكان يحيي الطاهر عبدالله قد رحل إثر حادث مؤسف وهو ذاهب إلي أسوان، فجاء المقال الافتتاحي بالمجلة رسالة مفتوحة إلي يحيي الطاهر عبدالله، كتبها محمد مبروك ملتاعا، ومن خلال هذه الرسالة كان مبروك يعبر عنا جميعا، وكانت كلماته تصف حالنا الذي وصلنا إليه آنذاك، وبعد أن يبثه أحزانه جميعا ينهي رسالته بقوله:(يحيي:الآن فقط أدرك كيف أنني لا أعرف كيف أقابلك بالتهليل وآخذك بالحضن ، ولن أتمكن من ذلك أبدا...لا يهم، دعنا، يفصلنا الموت وتؤاخينا الحياة، نواصل السعي متجاورين!)، وفي العدد ذاته الذي تضمن مواد كثيرة، هناك مقالة عالية المستوي والنظر عن تلك الرواية الجديد عربيا، والقديمة في العالم، إذ أن جارثيا ماركيز كان قد كتبها في أواخر الخمسينيات، ونشرها عام 1960 في ظل أجواء قمعية وديكتاتورية تشبه ماتعيشه بلادنا، المهم أن المقال كان بقلم محمد ابراهيم مبروك نفسه، وأؤكد أنني لم أقرأ مقالا قبله منشورا في المجلات المصرية علي المستوي الرسمي أو المستقل، وهذا يعني أن محمد ابراهيم مبروك هو أول من قام بالإخبار والنقد والكتابة عن هذا الكاتب الاكتشاف والعظيم، ومنذ ذلك الوقت بدأت الأوساط الثقافية المصرية تهتم بهذا الكاتب الذي يشبهنا، وكان عنوان المقال"الجحيم باتجاه المطهر"، وهناك مقدمة تحت كلمة "مدخل" كتبها مبروك في بداية مقاله، وأريد أن أنوه أن محمد مبروك قد حذف هذا المدخل الاحتفالي عندما أعاد نشر المقال في كتابه الصادر حديثا عن المجلس الأعلي للثقافة تحت عنوان "زمن الكتبة يأفل.. زمن الكتاب يجيئ"، يقول مبروك في المدخل :(قليلة هي تلك الأعمال التي تحتفي بما تقوله، بأن تكف عن الثرثرة أيا كانت أشكالها، أفكارا لا وظيفة فنية لها، أم زخرفة
الذي تتصدي لتناوله مانحة المتلقي إنجازا صلته بالحياة في جوانبها المتعددة أعمق من صلته بأي شيء آخر علي حدة)، وبعد هذا المدخل الاحتفالي الكبير والمطول، قدم مبروك قراءة متميزة للرواية، جاء في مقدمتها :(هذه الرواية من الأعمال التي تحتفي بغني الواقع، محيطة بخصائصه برؤية تتسم بالنفاذ والقدرة علي تمييز القوي الحية عن رموز الموت، علي الرغم مما يبدو عليه بطء الإيقاع وأحداث تشترك فيها الملايين أو جنرالات معتني بملابسهم الفخمة وحالة الاستعراض الدائمة التي تركبهم أكثر من العناية بالقضية التي يحاربون من أجلها...يختلف الأمر هنا، فنحن في قرية فقيرة في أحد بلدان أمريكا اللاتينية التي يسيطر عليها نظام سياسي متخلف لا يستطيع أن يحكم إلا في ظل حالة طوارئ، فتبدو هذه القرية بشكل عام، وللوهلة الأولي هادئة إلا إذا استثنينا بعض الوقائع الصغيرة مثل حوادث الاغتيالات التي تتولاها هجمات الدوريات المسلحة علي أماكن اللعب حيث تواجد الشباب لتفتيشه بحثا عن المنشورات السّرية ، يقول الكولونييل لزوجته وهو ذاهب لحضور جنازة شاب:"هذه الجنازة حدث هام، فهذا هو الميت الأول الذي يموت ميتة طبيعية منذ سنوات عديدة"، وقبل أن ننخرط في قراءة مبروك للرواية، أريد أن أنوّه أن مبروكا لم يكتف بكتابته المتحمسة عن الرواية، بل إنه حسم أمره وقرر أن يدرس اللغة الأسبانية بسبب هذه الرواية، وبالفعل تعلمها وأتقنها وأصبح من مترجميها المرموقين، ويبدو أن قصته تشبه قصة صالح علماني في بعض جوانبها، فصالح علماني مزّق روايته الأولي التي قطع شوطا في كتابتها، وبعد التقائه بكتابات ماركيز، هجر التأليف ونذر جهده للترجمة عن اللغة الأسبانية التي كان يعرفها جيدا بشكل سابق، وكذلك محمد مبروك الذي جعلته رواية"ليس لدي الكولونيل من يكاتبه" يندفع لدراسة اللغة الأسبانية، ويتفرغ للترجمة، ولم يكتب نصا قصصيا منذ ذلك الوقت، وهو الذي أدهش أبناء جيله بقصصه الحادة، وخاصة قصته "نزف صوت صمت نصف طائر"، والتي أدهشت يحيي حقي نفسه.
ونتساءل:ماالذي جذب المصريين بشكل خاص إلي هذا الكاتب، وإلي هذه الرواية علي وجه أخص، وقبل أن يتجه ماركيز إلي تأسيس ما أطلقوا عليه "الواقعية السحرية"، إذ أن رواية "ليس لدي الكولونيل من يكاتبه"، ليست تنتمي إلي هذا النوع من الكتابة، والجدير بالذكر أن جارثيا ماركيز دائما ماكان يصرح بأن أي كتابة له، لا بد أنها تنظلق من وقائع يعيشها أو تعيشها البلاد، ولا توجد أي كتابة عنده من وحي الخيال، لذلك كانت روايته المدهشة التي تشبهنا إلي حد كبير جاذبة وكأنها اكتشاف أو قارب نجاة، فحال الكولونييل الصارم، والذي يحيا علي أمل الانتصار علي القوي الفاشية، ويراهن علي الديك الذي هو رمز للانتصار، وسط بيئة سياسية واجتماعية شبه مجدبة وعقيمة وقد أحاطت بها كل معالم الشيخوخة والخيانة، حتي دون باسوس الذي كان صديقه ورفيقه في الحزب، أصبح منتفعا وتاجرا من انهزام حزبه أمام الفاشية، وكان يحاول إجبار الكولونييل ليبيع ديكه بثمن بخس، ولكن الكولونييل الذي صمد حيّا طوال خمسة وتسعين عاما ظل ينتظر أمل انتصار الثورة، وعلي مدي الرواية كلها كان يبعث الأمل في المحيطين به ، وفي المتعاملين معه، ويقاوم جميع أشكال الإحباط التي تغزوه، حتي وصلت محاولات قهره إلي درجة أنه لا يجد طعامه وقهوته، وقد كان ينتظر ما سوف تبعث به إدارة الدولة من "معاش"، بوصفه أحد المحاربين القدامي، وكانت زوجته تدفعه للتخلي عن هذا الحلم، ولكنه كان يقاومها بقوة، حتي أن أمسكته ذات يوم من ياقته، ونهرته، وقالت له:"قل لي من أين سوف نأكل أيها الكولونييل"، عند ذلك تخلي الكولونييل عن حكمته، ورد عليها في غضب"خراء"، إذ أنه كان يفضل ان يأكل الخراء، ولا يتخلي عن حلمه وثورته وكرامته وعن الثأر لابنه أوغستون الذي قتل من جراء القوات النظامية الفاشية الوحشية، وهكذا فهذه الرواية التي فعلت السحر للمصريين، كانت تشكل دفعا قويا للتمسك بالأمل إزاء النظام الذي كادت شيخوخته تفتك بالجميع، وكانت الرواية جزءا من المقاومة التي التقطها شاب تمرس علي العمل السياسي سّرا وعلنا اسمه محمد بكر، والتقط الرواية كاتب آخر لم يتهدم أمله في مستقبل عظيم لبلاده، ويكتب عن الرواية ويبشر بكاتبها، ويتفرغ لدراسة اللغة التي كتبت بها الرواية، ويكتب عنها مقالا لافتا، ولذلك عندما فوجئ جماهير ومثقفوا العالم بحصول ماركيز علي جائزة نوبل، لم يتفاجأ مبروك، بل كتب في مجلته النديم في ديسمبر عام 1982، أي بعد حصول ماركيز علي الجائزة بشهر واحد قائلا:"عندما فاجأ جابرييل جارثيا ماركيز العالم بحصوله علي جائزة نوبل، لم يفاجئنا ببساطة لأننا كنا بصرف النظر عن جائزة نوبل، في انتظاره!، وليس هو فقط، بل وجماعته من الكتاب الإسباالأمريكيين، كارلوس فوينتس، رولف، وكورتاثر، أوكتافيو باث...وفي انتظار من تشكل معهم من الكتاب، سواء تحققوا واكتمل نضجهم أو مازالوا في مرحلة التكوين وبسبيلهم الي النضج في أفريقيا وفي آسيا أيضا"، واسترسل مبروك في دراسته الثانية عن ماركيز لتشكل نوعا من التدشين الموضوعي لهذا الكاتب الكبير، وبالتأكيد فإن جائزة نوبل قد وضعت ماركيز وأي كاتب آخر فاز بها علي شريط الأخبار دوما، وراحت الصحافة تكتب وتخترع وتتابع وتجري لقاءات وتغطيات متعددة، وكان ماركيز سعيدا جدا، وقد كان لا يحلم بها، وكانت غاية حلمه أن يوضع في القائمة السوفيتية للكتاب الكبار، أما جائزة نوبل فلم يكن يحلم بها رغم أنه كان موضوعا علي قوائمها منذ أربع سنوات قبل الفوز بها، وهذا شيء طبيعي، ولكن بالنسبة لماركيز تسربت معلومات أن اللجنة المانحة لم تختلف مطلقا عليي استحقاقه للجائزة، ولكنها كانت مختلفة حول أي العناصر التي يضعونها في تقرير اللجنة، وكتب يوسف القعيد في مجلة الهلال ، وفي العدد الصادر في ديسمبر 1982 تحت عنوان "جائزة نوبل تطرق باب صديق الفقراء" وجاء في مستهل مقاله:"من حق دار الهلال أن تزهو بشكل خاص ، لفوز الروائي الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز جائزة نوبل لهذا العام، فهي المجلة الثقافية الوحيدة في مصر التي كتبت عن ماركيز أكثر من خمس مرات خلال العام الذي انتهي بفوز ماركيز بهذه الجائزة، وفي الشهر السابق علي فوزه مباشرة علي حصوله بها، خرجت الهلال وهي تتكلم عن الدرس الذي يجب أن نتعلمه جميعا من ماركيز، وكان العدد بالصدفة البحتة، ثبت بكل الأعمال الأدبية التي ترجمت له باللغة العربية حتي الآن، نعرف أن الحديث عن ماركيز سيصبح موضة مايسمي بالصحافة الأدبية في مصر، والهلال يعد ذلك انتصارا من نوع خاص لقضيته، حيث الثقافة هي الأساس، والنتاج الأدبي الجيد يفرض نفسه في النهاية، برغم كل محاولات التلوين والتشويه" ويستطرد يوسف قائلا:"في مهرجان شوقي وحافظ ، طلب مني الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي كل ما كتبه الهلال عن ماركيز، لكي يوصله اليه فهما أصدقاء، ويفكران الآن في إصدار مجلة أدبية لأدباء العالم الثالث، تركز علي التعاون بين الأدباء العرب وأدباء أمريكا اللاتينيةبصورة خاصة"، وفي العدد ذاته كتب الناقد الفني محمود قاسم مقالا تعريفيا طويلا تحت عنوان "موسم الجوائز الأدبية في العالم...جارثيا ماركيز يفوز بجائزة نوبل عام 1982"، ونوه كذلك إلي ماجاء منشورا في المجلة عن أدباء أمريكا اللاتينية، وأهمية دورهم في إبداع رواية جديدة، وبالطبع كتبت معظم الصحف والمجلات المصرية عن ماركيز صديق الفقراء محتفية أيما احتفاء، وفي ابريل من عام 1983 نشرت روايات الهلال مجموعة قصصية له تحت عنوان "الضحية"، وفي نوفمبر من العام نفسه نشرت الدار نفسها رواية تحت عنوان "ليالي الحب والرعب"، والنصان ترجما عن اللغة الإنجليزية للأستاذ محمود مسعود، وبالطبع علق كثيرون أن هناك تصرفا غير أمين في الترجمة، ربما لأن دار الهلال كانت تريد أن تحصل علي براءة اكتشاف أو اختراع، طالما أن الكاتب أصبح إحدي معجزات الثقافة والأدب، ولكن كتابات ماركيز بدأت تغزو مكتبات القاهرة، وانتبهت الصحافة له، واحتفي العدد الأول من مجلة "أدب ونقد" الذي صدر في يناير 1984، ونشرت قصة "أرملة السيد مونتيل"، ترجمها عن الإسبانية مباشرة الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم، وتوالي الاهتمام بنقل معظم آثار الكاتب العظيم جابرييل جارثيا ماركيز، فرغم أن روايته الأشهر قد ترجمت أكثر من مرة، وأشهر هذه الترجمات لصالح علماني عن الإسبانية مباشرة، وللأخوين عاصم وإنعام الجندي عن الفرنسية، إلا أن الدكتور سليمان العطار قام بترجمتها من جديد، وصدرت هذه الترجمة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ثم أعيد نشرها في دار سعاد الصباح، وقد نشرت الدار نفسها"سعاد الصباح" ترجمة بديعة لمجموعة قصصية لماركيز عنوانها"12 حكاية عجيبة" ترجمها الأستاذ الأكاديمي الدكتور محمد أبوالعطا أستاذ اللغة الإسبانية بكلية الألسن جامعة عين شمس، وكتب الناقد حسين عيد كتابا نقديا تناول فيه أعمال ماركيز الأدبية وصدرت طبعته الأولي عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وقامت مها السيد عبد الرءووف بترجمة كتاب "غريق في أرض صلبة"، وهو عبارة عن مجموعة مقالات صحفية مهمة ولافتة، وصدر هذا الكتاب عن دار ميريت، وبالطبع لا نستطيع أن نتتبع آثار الاحتفاء بشكل واسع في الصحافة المصرية، أو حتي حصر الكتابات عنه، وترجمة أعماله، ولكنني أردت أن أشير هنا إلي البدايات التي كانت بمثابة القطرات الأولي التي تحولت فيما بعد إلي نهر عذب ودفاق يخص صديق الفقراء جابرييل جارثيا ماركيز في الثقافة المصرية، والجدير بالذكر فهذه رؤيتي، وربما يكون لآخرين شكلا توثيقيا آخر، ولو هناك ذلك ليتنا نستعيده ونلقي الضوء عليه، لأن "جابو" العظيم، لا يخص أحدا بعينه، ولكنه يخص كل الباحثين عن الجمال والأمل في هذه الحياة الغامضة والشاسعة.
لغوية، أم مشاعر مجانية، وفي الوقت ذاته، عليها وهي تتجنب ذلك ألا تهرب مما لابد من مواجهته والكشف عنه من تناقضات في المجتمع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.