تبدو الحالة المصرية مستعصية علي الفهم, من اتساع مساحة التعقيد والتشابك والشك بين التيارات السياسية بعضها البعض, وبين القنوات الفضائية, وبين الشخصيات العامة المستقلة, وقبلها بين المجلس العسكري وجماعات من الثوار. حالة من التشرذم والانقسام كسرت إيمان الناس بما يحدث, وشوشرت علي أفكارهم وأبصارهم, فغامت الرؤية أمامهم ووقعوا في حبائل حيرة تشبه تلك التي وقع فيها بحارة الأساطير وهم تائهون في بحر الظلمات!. بالطبع الاختلاف وارد في عالم السياسة, أو بالأصح الاختلاف ضرورة وإلا صارت التيارات السياسية نسخا متشابهة بل مسخا, وأحكمت رؤية واحدة قبضتها علي مسار الحياة في المجتمع, وقادتها إلي الفساد والديكتاتورية والمظالم وتدهور الأوضاع, ولنا في الخمسين سنة الأخيرة تجارب بالحديد والنار مازالت آثارها علي أجسادنا وعقولنا ومعيشتنا ومستقبلنا!. لكن الاختلاف الذي يذرع الشقاق في تربة الوطن ويفترس الثقة بين النخبه القائدة إلي حد تبادل الاتهامات بالخيانة, هو مصيبة بكل المقاييس, مصيبة تشبه جحافل جراد نهم أغار علي حقول حنطة.. لأن الخلاف بين التيارات السياسية والنخب بعضها البعض لا يقف عند حدودها, وإنما ينسحب بالتدريج علي الناس العاديين ويبتلع ثقتهم في المستقبل, فضلا عن أيامهم الحاضرة, وهذا هو الخطر الأعظم, فالناس أهم من النخبة أيا كانت قامات أهلها, لأن هؤلاء الناس هم ملح الأرض الذي سينتشل هذا الوطن من عثرته, هم رافعته التي ستجره خارج المستنقع الذي عشنا فيه طويلا, هم سواعده التي تدير المكن وتبذر الحب وتصهر الحديد وتحرس الحدود, فكيف للناس إن فقدت الثقة ومص عقلها القلق والتوتر والغموض أن تلعب هذا الدور العظيم؟!. ولا يجوز أن تستمر النخب في شقاقها وصراعاتها الصغيرة.. ليس من أجل أنفسهم أو أحزابهم أو أفكارهم, بل من أجل شعب مصر الذي تحمل ما لم يتحمله شعب, كيف تخذلونه بعد أن صبر كل هذا الصبر وناضل وضحي ونزف دما طاهرا؟! كيف تتسببون في حيرته وشكوكه وتشدونه إلي الخلف وكاد يلمس قرص الشمس بيديه, ويأتي بنهار مبهج لوطن لا يستحق المكانة الرديئة التي وضعوه فيها؟ قطعا المصالح متضاربة تضاربا حادا, لكن صناعة أرضية مشتركة نقف عليها جميعا دون تخوين أو استبعاد أو احتكار للحقيقة أو تصلب شرايين في المواقف أمر ممكن للغاية, بل هو واجب وطني كالحرب تماما في ميادين القتال. أول خطوة في المساحة المشتركة هو إيقاف ماكينة الاتهامات سابقة التجهيز فورا, وحبذا لو فككناها وألقينا بها في أقرب صندوق قمامة, ولا يتصور أحد منا أنه صاحب الحقيقة أو صاحب الثورة أو أن ما يطلبه هو إملاءات يجب أن ينصاع لها الآخرون كما ينصاع الضعفاء المهزومون لشروط الأقوياء المنتصرين, فكلنا سواسية لنا نفس حقوق المواطنة, ونفس القدر في تشكيل مستقبل بلادنا, لا فصيل له فدان وآخر له قيراط, فصناعة مستقبل الأوطان تتجاوز نتائج الانتخابات, وهذا لا يمنع من وضعها في الحسبان والتقدير العام دون أن يكون لها الغلبة والمغالبة!. وإحقاقا للحق كلنا بلا استثناء مارس لعبة الأخطاء البسيطة والمركبة, لا يبرأ منها فصيل أو تيار أو ثوار أو شخص أو مجلس عسكري, والأخطاء جلية وتخرق عين الشمس, وهي التي أوصلتنا إلي هذه الحالة الصعبة!. أخطاء علي مستوي التقدير: تقدير القوة الذاتية وقوة الآخرين, فمارس البعض منا غرور القوة عيني عينك, إلي درجة كاد فيها يضع أصابعه في عيون الناس, أخطاء علي مستوي التفكير والتحركات السياسية: من أول عمليات التحريض ضد المؤسسة العسكرية وأنها لازم تمشي فورا إلي اعتبار الانتخابات النزيهة هي المراد من رب العباد..أخطاء في تطوير الثورة وتغيير النظام, فأصبحنا في منتصف إعادة إنتاج النظام القديم بكل سلبياته ونواقصه وكوارثه! وأنا لا أريد الدفاع عن المؤسسة العسكرية, والدفاع عنها شرف, ويكفي فعلا ما صنعته مع الثورة, صحيح إنها نزلت إلي الشارع لحماية الشرعية الدستورية والنظام أولا وهذا واجبها, ثم حماية الناس العاديين والمتظاهرين ثانيا, وحين تعارض الهدفان اصطفت المؤسسة إلي جانب شعبها ولم تخذله, والمؤسسة يقودها المجلس العسكري وليس كائنات من الفضاء الخارجي!. صحيح أيضا أن المؤسسة ارتكبت أخطاء كبري بدت كما لو أنها مقصودة غرضها الانحراف بالثورة عن أنبل وأجمل ما اشتعلت من أجله وهو.. الشعب يريد إسقاط النظام.. والاكتفاء بالتخلص من الرئيس وبطانته القديمة وإنشاء مؤسسات برلمانية بانتخابات حرة ونزيهة وتقليص صلاحيات أي رئيس مقبل وإصدار تشريع جديد خاص باستقلال القضاء, وطبعا ستقوم الحكومة الجديدة بإصلاحات اقتصادية تخفف من معاناة الناس, وقد تزيد الدعم وترفع الحماية التي كفلتها قوانين سابقة للأغنياء! ولم تكن المؤسسة فقط هي التي تفكر بهذه الطريقة, وإنما تيارات سياسية لها شعبية تؤهلها لوراثة النظام القديم وإعادة تشغيله بطريقة أفضل! وفي الوقت نفسه كانت فصائل من ميدان التحرير تتصرف كما لو أنها صاحبة الحق الوحيد في تحديد المسار الذي يجب أن يمضي فيه الوطن, وهي تيارات في الحقيقة تصلح أن تكون ضميرا للوطن وليس كل عقله السياسي, لنقص في الخبرات والثقافة وهذا ليس عيبا بحكم سنها, بالإضافة إلي وقوع البعض منها في دوائر لشخصيات معارضة مشهورة, هي بطبعها كانت جزءا أصيلا من النظام القديم ولعبته الديمقراطية, حتي لو اتسم اللعب بينهما في بعض الفترات بخشونة بالغة وضرب تحت الحزام!. علينا أن ننسي هذا الماضي بكل أخطائه وتلك التجارب السيئة ونفتح صفحة جديدة من حوار وطني دون شروط مسبقة أو فرض رؤي بعينها, حوار يبدد الشك ويعيد الثقة إلي الناس في أن نخبتها علي قدر المسئولية.. فهل يمكن أن نبدأ هذا الحوار فورا؟. المزيد من مقالات نبيل عمر