أخى لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان، ذكاء وحرص واجتهاد وبلاغة وصحبة أستاذ وطول زمان.. هذا ما قاله فى سالف العصر والزمان الإمام الشافعى (رحمة الله) ، للصادقين فى طلب العلم والمعرفة،وأعتقد أننا جميعا فى أحوج ما نكون للمعرفة، وخاصة فى ظل التغير الاجتماعى المربك الذى تمر به مصر وشقيقاتها من الدول العربية، فكل فى مرحلة إعادة الكيان الوطني، على أسس عصرية حديثة، ليحفظ لها التماسك والتوازن الاجتماعى ولدى مصر والأمة العربية من الأساتذة أصحاب العلم ما يكفى لترميم الكيان الوطنى المكدود، من جراء الجهل والفقر والاستعمار، فلا خيار إلا اتباع قادة المعرفة السوسيولوجية والنفسية قبل،أو بالتوازى مع ، قادة السياسة والاقتصاد، فهم من يمثلون ( بومة منيرفا) العربية، رمز العقل والحكمة، القادرين على فهم وتوجيه التغيرات الاجتماعية الهامة فى القيم والمعايير، فهى الأشد خطورة من التغيرات السياسية والاقتصادية المفهومة والواضحة، بينما القيم والمعايير قد ندعى ثباتها، ولكن الحوادث تكشف اختلال القيم والمعايير، حتى تصل أحيانا إلى اللا معيارية السلوكية، وكأن المجتمع تحول إلى عش المجانين! ويشير عالم الاجتماع العراقى د. (على الوردي) أن مشكلة النزاع البشرى هى مشكلة المعايير والمناظير، قبل أن تكون بين الحق والباطل، فعلينا ونحن على أعتاب عهد جديد أن يتم ضبط المعايير والمناظير المشتركة، لخلق وحدة مبدأية بين فئات وأفراد المجتمع، لحل التناقضات البينية، والوصول إلى صيغة التعايش المشترك، فكما يقول (الوردي) أن ما يحسبه الناس نزاع بين حق وباطل، ما هو إلا نزاعا بين حق وحق آخر، فكل فريق يعتقد أنه على صواب والآخرين على باطل، ولو نظرنا من الزاوية التى ينظر منها الفريق المقابل لوجدت شيئا من الحق معه، مما يتطلب توسيع مجال الرؤية ليستوعب الاختلافات بين البشر! الشعارات المختصرة الإجمالية تلغى التفاصيل، الذى يدخل منها الشيطان، لذا يهتم العباقرة الحقيقيون بالتفاصيل على غرار (نيوتن)، الذى اهتم بسقوط تفاحة فتوصل لأهم القوانين العلمية الكبري.. فحين أن تلك الشعارات الدينية أو القومية أو غيرها من الأيديولوجيات المطلقة، يقع فى أسرها المتعلمين، وبعضهم يفاخر بمجموعه فى الثانوية الذى تجاوز 99 بالمائة، وأدخله الطب أو الهندسة، ثم يصبح أستاذا فيها، ولكن يبقى على جهله كما هو وتفسير ذلك يشرحه (الوردي) بالتمييز بين المتعلم والمثقف، فليس كل متعلم مثقف، فالمتعلم يتحكم فيه الإطار الفكرى الذى اعتاد عليه، وهو كامن فى اللاشعور ولا يستطيع أن يتخلص من شيء لا يشعر به!، وهو لم يزد من العلم إلا ما يزيد من تعصبه ويضيق مجال نظره، فعندما آمن بشعار أيديولوجى مذهبى أو قومى أو طائفي، أخذ يسعى وراء المعلومات التى تؤيده بينما المثقف فهو مرن، وعلى استعداد لتلقى الأفكار الجديدة والتأمل فيها، وهذا ماكشفته الثورات العربية فالمثقف ربما كان عالما لا يزيده علمه إلا تواضعا واحتراما للمختلفين معه لأنه يدرك المنظار الذى ينظرون منه للأمور، أو قد يكون المثقف إنسانا بسيطا ولكن فطرته السليمة وذكائه الفطري، ينفر من الشر المستطير، الذى تجلبه صدامات الأيديولوجيات. قليلون هم من يستطيعون الخروج من القالب الفكرى ومعاييره الثابتة، مثل الشيخ المجدد (محمد عبده)، الذى عندما احتك بالمجتمع الغربى المغاير تماما للمجتمع الشرقي، الذى نشأ وتعود عليه، فقال عبارته الشهيرة والبليغة، إن هناك مسلمون بلا إسلام، والتى جرت عليه المتاعب والاتهامات من العقول الجامدة، التى يتحكم فيها الإطار الفكري، ويشبهه (الوردي) بالضغط الجوي، الذى يتحمله الجسم ولا يحس بثقله الهائل، إلا عندما ينتقل إلى مكان آخر يتغير فيه مقدار الضغط، عندها ربما يشعر بوطأة الإطار الفكرى الضاغط عليه، وحجم الأوهام الغارق فيها، فيبدأ عقله فى البحث والتحرى فى المسلمات التى يعتقد بصحتها، فيعدل ويطور منها، ولكن هناك أيضا من يتحكم فيه القالب ويحسب نفسه حرا، وهو ليس إلا مغفلا كبيرا، حتى أن هناك أحد الأباء الذى اندهش لشدة تعصب وجمود ابنه، العائد من أمريكا بعد حصوله على الدكتوراه فى الهندسة، فتساءل هل أخذتها من أمريكا أم من طالبان! عبقرية ثورة (30 يونيو) أنها ثورة حضارية، ضد مرض التخلف وسطوة شعارات تقود للانتحار الاجتماعي، إنها ثورة ضد الاستبداد الاجتماعي، بأن يدعى فريق معرفة ما يريده الله، لنغرق فى الدماء باسم (الله)، وهو أخطر أنواع الاستبداد، وعندما نلبى مطالب تلك الثورة لانلبيها إلا بالعلم والعقل، ولدينا رموز من (بومة منيرفا) من العلماء والفلاسفة التطبيقيين، القادرين على المواءمة بين الطموح والواقع، ووضع الإطار الفكرى والمعايير الأخلاقية المنضبطة بطبيعة الإنسان والعصر، ووضع برامج عملية لينتظم فيها المجتمع، الذى يدرك جيدا الأزمة الاجتماعية التى وصلنا إليها، ومستعد كما أعتقد لتقديم تضحيات من أجل الإصلاح الاجتماعي، تحت راية (بومة منيرفا) العاقلة! لمزيد من مقالات وفاء محمود