كما تكشف جرائم التحرش عن الخلل فى المعيار الثقافى ، الذى يحمل الضحية مسئولية الجريمة، ويخفف من إدانة المجرم، تكشف مواقع التواصل الاجتماعى عن الرغبة الاجتماعية فى إقامة مراجعات ثقافية، لمواقف تاريخية قديمة، وأيضا حديثة ولكنها كانت نتاج للعقل الشعري، الذى يحكم البنية الاجتماعية، ولا يكاد يتحول، رغم تكرار الكوارث التى يجلبها! فنجد أن صفحة التواصل الاجتماعى للملك الراحل (فاروق)،رغم بساطتها الشديدة، قد جذبت مئات الآلاف، الذين يطالعون منها صورا لمظاهر الحياة الاجتماعية، قبل ثورة 52، والتى لا شك تنبيء بالكثير من ارتفاع الذوق العام، والرقى الحضاري، واستقرار وهيبة رموز الدولة، مما يثير الحنين، فى محاولة لاستعادة هذه الحالة الحضارية، دون معرفة السبيل إلى ذلك وكما نجد انبهارا برقى الأميرات المصريات، نجد الانبهار برمز الثورة والبطولة القائد الخالد (جمال عبد الناصر)، الذى استطاع هدم كيان الدولة القديمة الذى يستوعب القلة بثقافتها وحضارتها، ليؤسس لكيان جديد يستوعب الأغلبية الكاسحة من الشعب، حتى إن هناك من يتوسم فى المرشح الرئاسى (عبد الفتاح السيسي) خليفة للقائد الراحل، ليكمل ما بدأه.. كفكرة طبيعية للعقل الشعرى الذى يعيش الأوهام، كأنها حقائق، فلكل زعيم ظروفه التى تحكمه، لا الخيال ولا الأيديولوجيا، إنما فقط مصلحة الوطن وفق المتغيرات المستحدثة، ومحاولة جر المشير (السيسي) للعيش فى جلباب (ناصر) كمين عليه التنبه له! المراجعات أيضا شملت الرئيس المحنك (أنور السادات)، واستوعب الناس ، ممن كانوا لا يدركون، معنى كونه بطل الحرب والسلام، فمما لا شك فيه أنه بطل للحرب، أما بطل السلام فكانت تلقى نقدا واتهاما مريرا بالتفريط فى قضية الأمة العربية، بينما نجد مراجعات عديدة، تعترف له بعبقرية نظرته بعيدة المدي، للتحولات العالمية، كما تناولت المراجعات أيضا حقبة الرئيس الأسبق (حسنى مبارك) ولم تعد تقتصر على « أسفين ياريس» وهناك فريق يتأسف للرئيس الأول للجمهورية المصرية محمد نجيب، وليست المواقف السياسية المرتبطة بشكل مباشر بحياة الناس فقط، من تطولها المراجعات، ولكن أيضا الأفكار الفلسفية والدينية والأخلاقية، مما يذكرنى برواية الكاتب الأمريكى (كين كيسي) طار فوق عش المجانين، وعش المجانين هذا مؤسسة علاجية صارمة، دخلها مجموعة من الشخصيات بمحض إرادتهم، ليعالجوا أنفسهم من الجنون الذى أصابهم، وفق معايير المجتمع، فهم غير مقتنعين بالأفكار الجاهزة أو الأيديولوجيات الجامدة المستقرة فى أذهان غالبية الناس، فأرادوا الشفاء من هذا الجنون، ليستسلموا لما هو مفروض عليهم، من قناعات غير مقنعة. الوحيد الذى يعتقد بسلامة عقله شخص لم يدخل لا المدارس ولا الكنائس، فاحتفظ بالفطرة السليمة، دون تلويثها بالأيديولوجيات الكاذبة، أو السلطة المهيمنة! وأعتقد أن عش المجانين يضم يوما بعد يوم، روادا جدد من عالمنا العربى التعيس، ممن يرون أن الاختلاف بين البشر أمر طبيعى ، ولكن الصدام والقتل بسب هذا الاختلاف أمر جنوني، فالحرية حق طبيعى لكل البشر بحيث لا تسلب حرية الآخرين ، ويعتقدون فى الأفكار العملية الجالبة للخير، لا الأفكار الخيرة الجالبة للشر والتدمير والخراب، ويمقتون النصابين الذين يرتدون عدة النصب فيضعون معايير أخلاقية عالية، لا يطبقونها على أنفسهم، بل فقط على الناس، فيشغلون أنفسهم بما يدخل الآخرين النار، ولا يعملون هم على ما يدخلهم الجنة. ما علينا إلا أن نستغنى عن خدمات الغربان بالفضائيات، ولنجرب (بومة منيرفا) فهى كما يقول (هيجل) لا تطير إلا عندما يحل الظلام، وليس هناك أحلك مما يمر به العالم العربى من ظلام، يحتاج لنور العقل والحكمة والمهارة، وهو ما ترمز إليه البومة، طائر الألهة (منيرفا)، ربة العقل وجميع المهارات الفنية واليدوية والطبية عند الرومان، والتى اقتبست من الألهة (أثينا) عند اليونان، فالحضارات لا تقوم من فراغ، وقد اتخذها عدد من الجامعات الأوروبية رمزا لها، لما تحمله من معان رمزية عقلانية لا تنتهى مع الزمن (بومة منيرفا) هى الخلاص العربى من العقل الشعري، الذى يبنى مستقبله على الأوهام اللذيذة، بضاعة الشعراء، ومن يتبعهم من الغاوين، الذين عشموا الناس بالمدينة الفاضلة ، فدفعوهم إلى الهاوية، ولن ينقذهم من تلك الهاوية إلا (بومة منيرفا) العاقلة، ذات النظرة الثاقبة الهادئة، فعلى العلماء والمفكرين أن يتكلموا ويقودوا، وقد بدأوا يكشفون غوغائية المنافقين الكلامنجية، وقد بارت بضاعتهم، وإن كان بعد خراب مالطة.. إلا أن عامة الناس استفاقت على الواقع المرير، واندفعوا لينتخبوا البطل الجسور الذى حمى الوطن من الانهيار، وإن كنت أعتبر أن البطل الخفى ليس مرشحا، وهو من حمى الجيش المصرى من التفكك والانهيار، وهو المشير (حسين طنطاوي)، الذى يحمل كثيرا من أسرار بومة منيرفا ،(بومة منيرفا) ليست بعيدة عنا ولكنها بيننا ولا نصغى إليها، ونهرب إلى الماضى نستجدى عودة زمن فاروق أو ناصر أو السادات أو حتى مبارك، مع أن هؤلاء جميعا من الماضي، وبومة منيرفا تنظر للمستقبل، ولا يستشفه إلا العلماء، فلتخرج الأبحاث من الأدراج، والعلوم من العقول، لتطبق على الواقع الجديد ومشاكله، لتحسين ظروف الناس حتى تتحسن أخلاقهم، فكما يرى د. (على الوردي) عالم الاجتماع العراقي، إن الوعاظ يحاولون إصلاح أخلاق الناس بالنصيحة المجردة، بينما الأخلاق نتيجة للظروف النفسية والاجتماعية، فالأخلاق السيئة ليست سببا للظروف السيئة ولكنها نتيجة لها، وتغيير الظروف الاجتماعية المعقدة لا يحدث بالكلام، ولكن بالفعل المبنى على العقل، ويرى (الوردي) إنه يأتى بتفاعل قوى المحافظين مع المجددين فالمجتمع الصالح يتحرك بهدوء العقل، فلا يتعفن بجمود المحافظين أو ينهار بضربات المجددين الحالمين، وأعتقد أن بومة منيرفا قادرة على ضبط الإيقاع بينهما إذا خلصت النيات فوق عش المجانين.. وللحديث بقية مع الوردي. لمزيد من مقالات وفاء محمود