زادت فى الآونة الأخيرة الفتاوى المثيرة للجدل لاسيما فى المجتمع المصري، واقتحم مجال الإفتاء كل من هب ودب، وكأن الإفتاء أصبح صنعة من لا صنعة له، وقد ذكرنى هذا بمقولة لا ادرى مصدرها حيث قيل لفاشل لا يحسن شيئا إذا أسند إليه:عليك بالإفتاء فما أسهله، كل ما عليك أن تجلس فإذا سئلت فى مسألة فلتقل فيها قولان، حتى أوقعه احد الخبثاء فى شر أعماله حين سأله أفالله شك؟ فلقى الجزاء المستحق على جوابه. إن الإفتاء ليس مهمة سهلة، وأهل العلم العارفين بخطورته يفرون منه وإن كانوا من أعلامه تورعا وخوفا من سوء العاقبة، أما من لا يعرفون خطورته فيلقون بأنفسهم عن سبق عمد وترصد فى أحضان جهنم وساءت مصيرا. فصناعة الفتوى لها أربعة أركان: المفتي، والمستفتي، والمسألة المستفتى عنها، والفتوى، ولكل ركن من هذه أركانه وشروطه التى لا ينفك عنها، ويمكن أن أشير هنا إلى أبرزها: فالمفتي: يلزم أن يكون عالما مشهودا له بالبراعة فى جملة من العلوم فى مقدمتها: كتاب الله وبخاصة آيات الأحكام، وما يتعلق بها من أسباب النزول، والمجمل والمفصل، وما ذكره العلماء فى الناسخ والمنسوخ، وكيفية الجمع بين المتعارض ظاهرا، ومن السنة كذلك، ويلزمه أن يحيط بما أجمع على أحكامه سلفنا الصالح، وما اختلفوا فيه، وأن يتقن القياس وأنواعه، ومصادر التشريع المختلف فيها والتى تقارب العشرين مصدرا بعد الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ومن قبل ذلك كله يكون عالما باللغة بالعربية، وتراكيبها، والحديث وعلومه، والتفسير، كما يلزمه أن يكون ملتزما بعلمه مشهودا له بالفضل والورع بين الناس، وأن يكون عالما بحال الناس ومكرهم وخداعهم، وأعرافهم وإلا زاغ وأزاغ. أما المستفتى السائل عن حكم مسألة، فليزمه أن يسأل عن حكم الله لا حكم غيره، وان يسأل عن حكم مسألة يجهل حكمها ويحتاج إليه، ولا يسأل من باب الجدل أو إظهار العلم، أو عجز من يسأل، فكثير من السائلين يسأل عن حكم مسائل يعلم أحكامها، أو مسائل يعلم بأن الخلاف استقر فيها، ويعلم كل ما ذكره العلماء فيها، كتوحيد المطالع لاسيما فى بداية الصيام ونهايته، ووقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد، وفوائد البنوك التقليدية. والمسألة محل الفتوى: يلزم بأن تكون مسألة واقعية تحتاج إلى بيان لحكمها، وليست من الأمور المفترضة كالتى يتحدث عنها بعض الناس فى أيامنا، ويشغلون بها صفحات الجرائد، وتستهلك وقت المشاهدين، فمن تتعرض زوجته لاعتداء لن يسأل عن حكم الشرع قبل أن يتصرف مع المعتدى بما يمليه عليه الظرف، وتتحكم فيه تربيته وشهامته ورجولته، وكل هذا اعتبره الشرع فى حكم المسألة، وبين أحكامه فيما يعرف فى فقهنا بدفع الصائل(المعتدي) والذى قال فيه رسولنا الكريم فى الحديث المرفوع:« قَال: »: مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ». وغير ذلك من أحاديث يحفظها الناس ولسنا بحاجة لأن نشغل وقت الناس بحديث حولها يثير جدلا ما أحوجنا للاستغناء عنه، فما يتصرف به من تعرض لأمر كهذا علمه الشارع قبل حصوله، وشرع الأحكام المراعية للطبيعة البشرية التى جبل الناس عليها. أما الفتوى: فيلزم أن تكون موافقة لمراد الشارع فى ظن المفتي، متجردة عن هوى نفسه، ولا علاقة لها بانتمائه الاجتماعى أو السياسى إن وجد، ميسرة على الناس بحسب أحوالهم، ولذا يمكن أن تختلف باختلاف المستفتين، فما يصلح لسائل قد لا يصلح لسائل آخر، وهذا ما يعرف إن كان من يتصدون للإفتاء فى أيامنا سمعوا هذا المصطلح من قبل (تحقيق مناط الفتوى) وذلك بربطها بواقعها وعدم التيسير فى غير محله، أو التشدد فى محل التيسير، ومراعاة الحال والزمان. ويجب أن يكف من تطفلوا على موائد التشريع والإفتاء لينصرفوا إلى أعمالهم وتخصصاتهم الأصيلة التى نحتاج إلى رأيهم فيها اشد من حاجتنا لتخريفهم فيما يتعلق بالفتاوى الشرعيّة، ويتركون الفتوى لمن ابتلى بها، ولا يجد مهربا منها. وعلى الناس أن يعلموا أن هناك خطأ شائعا وهو أن كل شخصية عامة ترتدى ملابس أشبه بملابس العلماء إذا ذكر كلاما يتعلق بالحلال والحرام يعد فتوى من الفتاوى فسرعان ما تتلقفها وسائل الإعلام فى برامجها الباحثة عن شغل مساحاتها التى تستغرق معظم الليل، لتزيد من حيرة الناس بما يسمعونه من تعليقات من ضيوف ربما أجهل ممن ذكر هذا الكلام بكثير، وإنما كان هذا من الخطأ لأن هذه الأقوال لا يصح أصلا تسميتها فتاوى، وإنما هى مجرد أراء تعبر عن رأى قائليها، ولا يجوز الاعتماد عليها فى التطبيق، ولا تعفى السائل عن المؤاخذة الشرعيّة، حيث يلزم السائل أن يلجأ إلى من يعتد بفتواه إن أراد أن يبرئ ذمته ولا يكون مسئولا عن تبعة فعله، ويحملها إلى من أفتاه. ومصادر الإفتاء المعتد بها هى الأزهر الشريف ممثلا في: هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلاميّة، ودار الإفتاء المصريّة، وعلى الجميع أن يعلم أن الفتوى التى تصدر من متخصص فى علوم الشريعة ليست محصنة من النظر فيها من الجهة الأعلى، ولذا فإن هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف من حقها مراقبة الفتاوى الصادرة عن متخصصين متى كانت لا تستند إلى ما يمكن قبوله من مصادر الفتوى، كتلك الفتاوى التى أطلقها البعض فى إجازة ما اتفق عليه فقهاء أهل السنة والجماعة كحل زواج المتعة المجمع منهم على تحريمه، وبعض الأنكحة المعاصرة التى لا تحقق المقاصد الشرعيّة من النكاح، وتلك الفتاوى السياسية التى انطبعت بطابع مصدرها وميله السياسي، ولا تستند إلى رأى معتبر من آراء سلفنا الصالح فضلا عن افتقارها أى سند شرعى أو مصدر يعتد به، وعدم تحقيقيها لأى مصلحة مجتمعية، وإنما تزيد من حالة الانقسام وتوسع دائرة الشقاق التى سيسألون عنها حين يلتقون قريبا مع خالقهم عز وجل.. وفى النهاية أقول لمن يقدمون على الفتوى بغير علم، أو مخالفين لعلمهم وقواعد شرعهم لغرض من أغراض الدنيا : ( وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ). لمزيد من مقالات د. عباس شومان