ما زالت تتردد أصداء القانون الجديد الذى يحظر على المواطنين الطعن فى العقود التى تبرمها الدولة مع المستثمرين وقرارات الخصخصة بعد أن كان هذا الطعن متاحاً من قبل. ليس الهدف من هذا المقال إعادة انتاج الخلاف القائم أو النقد من أجل النقد. هنا محاولة للبحث عن بدائل ممكنة والحد من مخاوف مشروعة يثيرها تطبيق القانون الجديد. وهنا أيضاً محاولة لرد وجهات النظر المختلفة إلى مبادئ ومعايير يجب الاحتكام إليها. فقد بدا من خلال استعراض ما كتب حول هذا الموضوع أن هناك خمسة التباسات يتعين تبديدها. الالتباس الأول ينصب على مفهوم البعض لحماية الاستثمار وتشجيع المستثمرين. ومرة أخرى لا أحد عاقلاً يمكن أن يكون ضد تشجيع الاستثمار. كل المطلوب فى هذا الأمر هو تحقيق التوازن بين ضرورات تشجيع الاستثمار ومقتضيات مكافحة الفساد. فالدولة التى سارعت إلى إصدار قرار بقانون لتنظيم إجراءات الطعن على عقود الدولة دون انتظار لتشكيل البرلمان الجديد وانعقاده لم تتحل بالهمة نفسها والسرعة نفسها لكى تصدر قانوناً آخر ضرورياً وملحاً بشأن معايير الشفافية والحوكمة فى إبرام عقود الدولة. كنا نتمنى أن يصدر القانونان معاً اذا كان لا بد من صدور أحدهما أولاً لكى نحقق التوازن المطلوب الذى (تتحدث) عنه الدولة بأكثر مما (تطبقه) وثانياً لكى يكون ذلك رسالة طمأنة من الحكومة للمواطنين وتعبيرا عن التزامها بمكافحة الفساد وقبول رقابة الشعب على المال العام، لا سيما ومصر ما زالت تقبع فى موقع متأخر فى التقرير السنوى للشفافية الدولية. فبعد ثلاث سنوات من ثورة عظيمة ما زالت مصر تحتل المرتبة 114 لتكون بذلك بين الدول الأكثر فساداً فى العالم. الالتباس الثانى ويتعلق بنظرتنا المتشككة لممارسة المواطنين حق الطعن فى عقود الدولة أمام القضاء كما لو كان ذلك يتعارض مع اعتبارات تشجيع الاستثمار وأنه يُعرض الدولة لرفع قضايا تحكيم دولى فى مواجهتها. هذا التباس اخر يتوجب رفعه. فالدولة التى تخشى من التحكيم كان يجب عليها أن تتحلى باليقظة والشفافية وهى تبرم عقودها منذ البداية. ثم لماذا الخشية والقلق من (مجرد) لجوء المواطنين أمام القضاء بهدف حماية المال العام طالما كان لدينا قضاء (شامخ) نزهو أمام العالم باستقلاليته وحيدته وكفاءته. وأخيراً اذا كان لا بد من تقنين وضبط استعمال حق التقاضى حتى لا يتم استغلاله من جانب البعض (وهو أمر وارد) فهناك بدائل تشريعية لتحقيق ذلك مثل فرض غرامات مالية حال ثبوت سوء نية المدعى أو خطئه فى استعمال حق التقاضي. هذا مجرد مثال من أمثلة كثيرة تتجاوز حدود هذه المساحة. الالتباس الثالث مبعثه الاعتقاد أننا فى مصر ننفرد عن غيرنا من دول العالم بمثل هذا التطبيق لما يسمى دعاوى الحسبة. ويبدو أن مصطلح الحسبة بايحاءاته الدينية قد أُقحم فى الموضوع لإظهار أن القانون السابق لم يكن متوافقاً مع القوانين العصرية فى الدول المتقدمة. وهذا أمر غير صحيح. ففى أكبر البلدان الرأسمالية مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية تمنح قوانين مكافحة الممارسات الاحتكارية لأى مواطن ما يُعرف بحق الادعاء الخاص. لم يكن القانون السابق إذن بدعة فيما كان يجيزه للمواطنين من حق الطعن فى عقود الدولة مع المستثمرين أو فى قرارات الخصخصة وذلك تأسيساً على حقهم فى الرقابة على المال العام واستصحاباً لمصلحتهم فى (حماية) هذا المال من إهداره أو الإضرار به. الالتباس الرابع يكمن فى الزعم بأن القانون الجديد ما زال يجيز للمواطنين حق الطعن فى عقود الدولة وقرارات الخصخصة وذلك فى حالة صدور حكم بات بإدانة طرفى التعاقد أو أحدهما فى جريمة من جرائم المال العام بشرط أن يكون العقد قد تم إبرامه بناء على تلك الجريمة (المادة الأولى من القانون الجديد). هنا أيضاً التباس يتعين تبديده. فالطعن فى عقد تبرمه الدولة أو إحدى الجهات التابعة لها مع أحد المستثمرين قد يكون لأسباب تتجاوز جرائم المال العام المنصوص عليها فى البابين الثالث والرابع من الكتاب الثانى من قانون العقوبات. مثال ذلك مخالفة العقد لأى حكم قانونى آخر كما حدث فى عقد بيع شركة عمر أفندى الذى تم إبطاله لأسباب من بينها مخالفة حكم القانون الذى يحظر بيع وحدات القطاع العام التى تحقق ربحا وقد كانت هناك بعض الوحدات التى تحقق ربحا كان يجب استبعادها من صفقة البيع. ومثال ذلك أيضاً مخالفة العقد لأحكام قانون البيئة أو قانون حماية الآثار. ثم ان المنطق يبدو مقلوبا فى اشتراط سبق صدور حكم (بات) بإدانة أحد طرفى العقد لجريمة من جرائم المال العام التى تم بناء عليها إبرام العقد لإجازة طعن الأفراد فى هذا العقد. فالغالب أن يكون الطعن مناسبةً لكشف جرائم المال العام التى تحيط بظروف إبرام العقد. ثم إننا لا نعرف متى وبعد كم من السنين فى ظل بطء إجراءات التقاضى التى نشكو منها يمكن أن يصدر حكم بات ضد أحد طرفى العقد حتى يحق لأحد المواطنين الاستناد إليه (مستقبلاً) للمطالبة بإبطال العقد؟ هذا أمر يحتاج لفترة زمنية طويلة ولا يخلو من محاولة التفاف على ممارسة حق التقاضي. ثم ان هذا الفرض تحديداً هو الذى سيخلق للدولة نفسها والمستثمرين مشكلات جمّة نتيجة أوضاع كثيرة ربما تكون استقرت وترتبت على العقد. فمن الذى يخلق الارتباكات ويطيل الإجراءات ويعوّق الاستثمار؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم