تحقيق العدالة الاجتماعية هو الذى يعطى لأى نظام سياسى شرعيته الأخلاقية والوطنية الأعمق وغيابها هو الذى يعجّل بانهيار أى نظام سياسي. ولنتذكر أن المصريين قد رفعوا جمال عبد الناصر على الأعناق برغم هزيمة عسكرية مدوّية لانه بقى منحازاً لدولة العدالة الاجتماعية. لكن كيف تتحوّل العدالة الاجتماعية من مطلب ثورى إلى أحد أسس الدولة الجديدة التى نتوق اليها؟ هذا لن يتحقق بالخطابات السياسية المثيرة للضجر فى عيد العمال، ولا بالشعارات ، ولا بمقدمات الدساتير الإنشائية البليغة. مطلب العدالة الاجتماعية يتحقق بالذهاب فوراً ومباشرة إلى سؤال مكافحة الفساد. هنا، وهنا فقط، يكمن المحك الحقيقى الذى من خلاله يمكن تقييم سياسات العدالة الاجتماعية. أحدث مثال كفيل بإثارة القلق حول مدى جدية الالتزام بمكافحة الفساد كمعيار لتقييم مطلب العدالة الاجتماعية هو صدور قرار بقانون منذ يومين بوضع ضوابط لإجراءات الطعن على العقود التى تبرمها الدولة. وبصدور هذا القانون يقتصر حق الطعن ببطلان العقود التى تبرمها الدولة أو إحدى الجهات التابعة لها على طرفى العقد (أى الدولة والمستثمر مثلاً) وذراً للرماد فى العيون نصت المادة الأولى من هذا القانون على أن يتم ذلك مع عدم الإخلال بحق التقاضى لأصحاب الحقوق الشخصية والعينية على الأموال محل التعاقد (مثل عمال الشركات المباعة إذا كانوا يمتلكون أسهما فى هذه الشركات) . الجديد، والمثير للقلق ، فى هذا القانون أنه يحرم المواطنين من استخدام حقهم (الدستورى) فى التقاضى وينحيهم جانباً من الآن فصاعداً فى رفع دعاوى تطالب ببطلان العقود التى تبرمها الدولة ببيع أراض أو خصخصة شركات عامة لمخالفة أحكام القانون أو للإضرار بالمال العام . فى الدفاع عن هذا القانون تتباين الآراء. تتلخص وجهة النظر الأولى فى أن استبعاد المواطنين من حق الطعن ببطلان عقود الدولة مع المستثمرين ضرورة لتشجيع الاستثمار وحماية المستثمرين حسنى النية !! كما أن ذلك يتفق مع وجوب توافر المصلحة الشخصية المباشرة كشرط لممارسة الحق فى التقاضى ويحد من دعاوى الحسبة. الطريف هو ترحيب أحد المستثمرين (صحيفة الشروق 24 ابريل) بصدور القانون قائلا " إما ننتج فى ظل وجود نسبة فساد بسيطة أو البلد يقف" !! نحن نفهم بالطبع دواعى الحرص على تحفيز الاستثمار وحمايته ولا أحد عاقلاً يمكنه أن يبرر وضع معوقات لأى استثمار وطنى أو أجنبي. لكن ثمة ملاحظات مقلقة يثيرها القانون الجديد يتعين طرحها للنقاش. الملاحظة الأولى هى أن هذا القانون قد صدر بموجب قرار بقانون من رئيس الجمهورية بموجب سلطاته الدستورية، ربما كان من الأوفق أن يترك مثل القانون المهم لكى يصدر من السلطة التشريعية الأصيلة عقب الانتخابات المقبلة لا سيما وأنه لم تكن هناك ضرورة ملحة لا تحتمل التأخير. وقد سبق للمحكمة الدستورية العليا أن قضت فيما مضى بأن صدور قرار بقانون للأحوال الشخصية من رئيس الجمهورية لم تكن تبرره الضرورة لأنه اختصاص استثنائى (طعن رقم 28 بتاريخ 4/5/1985). الملاحظة الثانية أن القانون الجديد يثير تساؤلات مشروعة حول مدى جدية التزام الدولة بإشراك المجتمع والمواطنين فى مكافحة الفساد لا سيما إذا وضعنا القانون الجديد فى السياق الدستورى الذى صدر فى ظله. وهو سياق مثير للشكوك. فنحن لا نبالغ اذا اعتبرنا أن المادة 34 من دستور 2014 تمثل تراجعاً واضحاً على صعيد حماية المال العام حين نقارنها بالمادة 33 من دستور 1971. فالمادة 34 من دستور 71 (الذى يفترض أننا جئنا بأفضل منه) كانت تنص على حرمة الملكية العامة وأن حمايتها واجب على كل مواطن. كلمة المواطن فى هذا السياق كانت بالغة الدلالة لأنها تعنى أن من حق كل مواطن (بل من واجبه) حماية المال العام. ولا شك أنه من بين وسائل حماية المال العام أن يستخدم المواطن حقه الطبيعى والدستورى فى التقاضى للطعن فى العقود الحكومية وطلب إبطالها لانطوائها على مخالفة أحكام القانون أو الإضرار بالمال العام. لكننا نكتشف أن القانون الجديد يمثل تراجعاً عن إشراك المجتمع فى حماية المال العام بقدر تراجع دستور 2014 نفسه. فالصياغة الماكرة لنص المادة 33 من هذا الدستور تكتفى بالقول بأن حماية الملكية العامة واجب وفقاً للقانون. وهكذا تم استبعاد إشراك المجتمع والمواطنين فى مكافحة الفساد. بل والانتقاص من حقهم الدستورى فى التقاضى الذى تكفله المادة 97 من الدستور. أكثر من هذا أن القانون الجديد يمثل مخالفة لنص المادة 13 من اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد، وهى اتفاقية انضمت اليها مصر وصادقت عليها بكل ما يترتب على ذلك من آثار. الملاحظة الثالثة هى أن القانون الجديد مهما كانت دواعيه الاقتصادية يعطى إشارات سلبية على الصعد السياسية والقانونية والحقوقية. فهل حماية الاستثمار تعنى بالضرورة التضحية بالشفافية ومكافحة الفساد؟ الواقع أننا أصبحنا نحتاج لضبط مصطلح تشجيع الاستثمار. فالاستثمار يُشجع بالقضاء على البيروقراطية والبطء وخلق الحوافز الاقتصادية وليس بتحصين الصفقات والعقود من رقابة المجتمع. الملاحظة الرابعة هى عدم دقة القول بأن اقتصار الطعن فى العقود الحكومية على طرفى العقد سيحد من الإفراط المحتمل فى استخدام حق التقاضي. لأن الأمر منوط فى نهاية المطاف بيد القضاء ومتروك لحكمه وليس لمجرد ادعاء هذا الشخص أو ذاك بأن العقد يخالف القانون أو يمثل إهداراً للمال العام. ففيم الخوف إذن من أن يترك حسم هذا الأمر للقضاء. ثم أن هناك بدائل تشريعية أخرى كان يمكن اللجوء اليها للحد من إساءة استعمال الحق فى التقاضي. المهم أن نفكر. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم